الثورة – أحمد صلال- باريس:
بكل بساطة.. إنه فيلم وثائقي يتركك بلا كلام، في حين تستمر الوحشية الإنسانية بلا هوادة في قلب الضفة الغربية.
” لا أرض أخرى” هو فيلم وثائقي من إنتاج مشترك بين دولة فلسطين والنرويج، وإخراج الرباعي باسل عدرا، وحمدان بلال، ويوفال إبراهيم، وراحيل تسور، وهم ناشطون فلسطينيون وإسرائيليون داعمون للقضية الفلسطينية.
يأتي الفيلم في محاولةٍ من الرباعي في طريق البحث عن العدالة أثناء ما تعانيه فلسطين من اعتداءات، واختير ليعرض أول مرة في قسم البانوراما في الدورة 74 من مهرجان برلين السينمائي الدولي في 12 شباط/ فبراير 2024، إذ حاز على جائزتين، وحائز جائزة”أوسكار” كأفضل فيلم وثائقي في الثاني من آذار2025، ويتحدث في مدة 95 دقيقة عن ممارسات التهجير التي يعاني منها المواطنين الفلسطينيين في الضفة الغربية من الاحتلال الإسرائيلي، إذ يسجل الاعتداءات التي تعرضت لها منطقة مسافر يطا منذ عام 2019 وحتى عام 2023.
لأكثر من خمس سنوات، يصور باسل عدرا، الناشط الفلسطيني في الضفة الغربية، تهجير قريته على يد الاحتلال الإسرائيلي، الذي يدمر القرى تدريجيا ويطرد سكانها، ويلتقي يوفال، الصحفي الإسرائيلي، الذي يدعمه في مساعيه.
تنشأ بينهما صداقة غير متوقعة، هذا الفيلم، الذي أنتجته مجموعة فلسطينية- إسرائيلية من أربعة ناشطين شباب، هو عملٌ إبداعيٌّ من المقاومة في سبيل تحقيق عدالة أكبر.
ثمة أفلام تظهر على الشاشات كالمعجزات، تُلقي فجأةً الضوء على أحداث جارية تعتمد بشكل كبير على وجهة النظر المُسيّسة لهذه الوسائط أو تلك، في هذه الحالة.
يمتد فيلم “لا أرض أخرى” من عام 2019 إلى عام 2023، قبيل الكارثة التي حوّلت الصراع الإسرائيلي الفلسطيني إلى كراهية دائمة لا تُقهر.
المخرجون الأربعة، من ديانات متعددة، يشبهون الأبطال العاديين الذين يصوّرونهم، شاب فلسطيني مُصمّم على إبقاء عائلته في قريته الأم، مسافر يطا، مهما كلف الأمر، وصحفي إسرائيلي شاب يحاول رفع مستوى الوعي بسياسة الدولة الإسرائيلية في تدمير المنازل في فلسطين.
هذه هي الفكرة الأساسية لهذا الفيلم الوثائقي، الذي صُوّر كما لو كان في حالة طوارئ، إذ يُشرف جيش العدو، عاماً بعد عام، على جرافات مُرعبة تهدم منازل القرويين، لتطبيق قرار محكمة يمنح هذه الأراضي الفلسطينية للجيش الإسرائيلي.
“لا أرض أخرى” عملٌ فنيٌّ كثيفٌ ووحشيّ، يُظهر بوضوحٍ حزنَ العائلات المُهجّرة من ديارها، يقاومون، قدر استطاعتهم، رغم الرصاص الطائش أحيانا والترهيب المستمرّ من الجنود، باللجوء إلى الكهوف حيث ينسجون شبكات كهرباءٍ عبقريّةً لتشغيل التلفزيون أو الغسالة، في الوسط، هناك هذان الشابان، ذوا القوة المعنوية الهائلة، يُساهم كلّ منهما بطريقته في استعادة كرامة مَن أُجبروا على مغادرة بلداتهم الأصلية للانضمام إلى مدنٍ خانقة، مُصمّمةٍ أشبه بالمخيمات.
“لا أرض أخرى” فيلم وثائقي حزبي، لا يُخفي المخرجون الشباب الأربعة تحيزهم العسكري للشعب الفلسطيني، في الوقت نفسه، تشهد الصداقة التي تنشأ بين الشابين على الرغبة في طرح نموذج ثقافي يُمكن فيه التعايش بين الاختلافات، شريطة أن يقوم على عقد اجتماعي قائم على التهدئة واحترام مصالح كل طرف، يُسهم المونتاج والصور المُقطّعة في إبراز إلحاح إنساني يُمكن للحماس والشباب تجاوزه في مثالٍ يُحتذى به.
اختار المخرجون صوراً لا تشهد على الأزمة فحسب، تصف مشاهد عديدة صمود العائلات في هذه الكهوف ذات الأثاث البسيط، حيث يلعب الأطفال، والأمهات، اللواتي فقدن بعضهن أبناءهن، يسعين جاهدات للحفاظ على تعليمهن، والشباب يحلمون بحياة جديدة.
الموضوع جميل جداً، وكريم جداً، يُعيد لهذه العائلات المظلومة ظلماً صورة أناس لا يستسلمون للهمجية، بل يسعون يوماً بعد يوم للبقاء على قيد الحياة رغم مضايقات الجيش الإسرائيلي، ولا بد من التأكيد أيضاً على النظرة الشاحبة غالباً لهؤلاء الجنود الصغار، الذين يطيعون الأوامر، ويرتكبون أسوأ الجرائم محاولين تجاهل عبثية الوضع.
“لا أرض أخرى” عملٌ جادٌّ وجذريٌّ لن يُهدئ النقاشات الحزبية، بل العنيفة أحيانا، حول الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، ومع ذلك، يُظهر الفيلم الوثائقي سبيلاً ممكناً للعيش معاً، ويُذكّرنا بحقٍّ أنّ طرد السكان الفلسطينيين من ديارهم التي احتلّها الإسرائيليون لسنواتٍ طويلة، قائمٌ فقط على قراراتٍ سياسيةٍ تعسفيةٍ من قِبَل قلةٍ تُريدنا أن نُصدّق أنهم مدعومون من الشعب اليهودي بأكمله، يجب أن يُنظر إلى هذا الفيلم، أكثر من أي وقتٍ مضى، على أنّه دعوةٌ إلى الحبّ والسلام المُأمولَين، أملٌ يُمثّله البطلان المثاليان اللذان يُختتمان الرسالة العامة.