الثورة – علي إسماعيل:
تحاول القيادة السورية تثبيط النشاط العدائي الإسرائيلي جنوب البلاد عبر تكبيلها باتفاقية أمنية جديدة تسد ذرائعها التي تنطلق منها لتبرير ما تقوم به من توغلات واستهدافات ونشاطات مخالفة للقوانين والاتفاقيات الدولية.
الحراك الدبلوماسي السوري يدرك تماماً أهمية إطفاء بؤر التوتر التي تحيط بالبلاد حفاظاً على وحدتها وسيادتها، ومن هذا المنطلق يأتي إعلان الرئيس السوري أحمد الشرع، مساء الأحد في الـ9 من نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، في اجتماع مع قيادات المنظمات السورية الأميركية في واشنطن بأن العمل جارٍ على اتفاقية أمنية جديدة مع إسرائيل، موضحاً أن حكومته تسعى إلى استقرار الجبهة الجنوبية استعداداً لمرحلة إعادة البناء، حيث تطالب سوريا إسرائيل بالعودة إلى حدود ما قبل 8 من ديسمبر/كانون الأول الفائت.
مندوب سوريا الدائم لدى الأمم المتحدة، إبراهيم علبي، بدوره أكد أن الاتفاق الأمني مع إسرائيل قد يتم الإعلان عنه في أي لحظة، مشيراً إلى أن النقاشات مع تل أبيب ما زالت قائمة حول اتفاقية أمنية تتعلق بالنقاط الحدودية وتستند لاتفاقية فض الاشتباك لعام 1974، موضحاً أن النقاشات حالياً تقنية تربط بالمساحات وانتشار الجيش ويتم من خلالها معالجة المخاوف لدى الطرفين.
وكان الرئيس الشرع، لفت خلال اجتماع مع وفد إعلامي عربي في 24 أغسطس/آب الماضي، إلى أن أي اتفاق مع إسرائيل سيُبنى على أساس خط الهدنة لعام 1974، وأن دمشق لن تتردد في اتخاذ أي قرار أو خطوة من شأنها خدمة مصلحة سوريا والمنطقة.
بين الضرورة والسيادة
في هذا السياق، يرى الأكاديمي والباحث السياسي، عصمت العبسي، أنه في ظل تحولات إقليمية غير مسبوقة، تتجه الأنظار إلى العاصمة الأميركية حيث يجري الرئيس السوري أحمد الشرع زيارة رسمية قد تُفضي إلى توقيع اتفاقية أمنية بين سوريا وإسرائيل، برعاية أميركية مباشرة.
هذه الاتفاقية التي يجري التفاوض حولها منذ أشهر، تمثل تحولاً جذرياً وتعيد رسم ملامح التوازنات الأمنية في جنوب سوريا والجولان المحتل، كما أنها بحسب تصريح العبسي لصحيفة “الثورة”، لا تأتي من فراغ، بل تُبنى على واقع سياسي جديد فرضته القيادة السورية بعد طرد النفوذ الإيراني من البلاد، وإعادة هيكلة الجيش السوري ضمن تحالفات إقليمية جديدة.
أهمية الاتفاق
وفق تحليل العبسي، تكمن في ضبط الحدود الجنوبية ومنع الانتهاكات الإسرائيلية المستمرة، خاصة بعد سنوات من الغارات الجوية المتكررة، وأيضاً تعزيز السيادة السورية عبر رفض أي ترتيبات تمس وحدة البلاد، مثل فكرة “الممر الإنساني إلى السويداء” التي رفضتها دمشق بشكل قاطع.
كما أنها بحسب حديث العبسي، تأتي لإغلاق الذرائع الأمنية الإسرائيلية التي كانت تُستخدم لتبرير التدخلات، مثل وجود “مواقع مرتبطة بإيران”، وهو أمر لم يعد قائماً بعد طرد طهران من سوريا.
فضلاً عن تهيئة بيئة آمنة لإعادة الإعمار، حيث تُقدّر كلفة إعادة بناء سوريا بأكثر من 200 مليار دولار، والاتفاق قد يفتح الباب أمام التمويل الدولي.
واشنطن تقود التحول
الأوساط السياسية تنظر إلى الولايات المتحدة في هذا الملف كضامن ودافع أساسي نحو الاستقرار خاصة بعد الانتقال بالعلاقات السورية الأميركية من العزلة إلى الدعم والتعاون.
وهنا يؤكد العبسي، أن الولايات المتحدة تلعب دوراً محورياً في دفع الاتفاق قدماً، مدفوعة برغبتها في إعادة تشكيل خارطة التحالفات في الشرق الأوسط.
لذلك فإن زيارة الرئيس الشرع إلى واشنطن تتزامن مع رفع العقوبات الأميركية عن القيادة السورية، بما في ذلك الرئيس الشرع ووزير الداخلية أنس خطاب، ما يعكس تغيراً في الموقف الأميركي.
وكذلك، لقاء مرتقب مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب في “البيت الأبيض”، حيث يُتوقع أن يُعلن خلاله عن تفاهمات أمنية جديدة.
الرهان الأميركي واضح، وهو إعادة دمج سوريا في النظام الإقليمي والدولي، أما الرهان السوري، فهو استعادة الدور والمكانة، دون التفريط بالثوابت الوطنية.
وفي هذا السياق، يرى العبسي، أن الاتفاقية الأمنية ليست مجرد تفاهم عسكري، بل صفقة استراتيجية تُعيد تعريف سوريا في الإقليم، وتفتح الباب أمام مرحلة جديدة من العلاقات الدولية، قد تكون أكثر تعقيداً، لكنها بالتأكيد أكثر وضوحاً.
نضج سوري ومماطلة إسرائيلية
المصلحة الوطنية السورية والعلاقة السورية الأميركية الإيجابية التي أخذت منحى استراتيجياً تصاعدياً، إضافة إلى الوقائع السياسية الداخلية والإقليمية تفرض نفسها لجهة أهمية إنجاز اتفاق أمني مع إسرائيل برعاية وضمان أميركي بما يرسخ استقرار البلاد وخاصة المنطقة الجنوبية.
وهنا يشير الأكاديمي السياسي، إلى أن “الاتفاقية الأمنية بين سوريا وإسرائيل، إن تم توقيعها خلال زيارة الرئيس أحمد الشرع إلى واشنطن، ستكون بمثابة إعلان نهاية مرحلة وبداية أخرى.
مرحلة ما بعد النفوذ الإيراني، وما بعد الحرب، وما بعد العزلة الدولية، لكنها أيضاً اختبار حقيقي لقدرة القيادة السورية على الحفاظ على السيادة، دون تقديم تنازلات تمس وحدة البلاد”.
وباعتبار أن إسرائيل هي الخطر الأكبر على استقرار ووحدة سوريا ويجب إغلاق ملفها لبدء التعاون وتحويل التعاون الإقليمي والدولي إلى برامج عمل تنموية تهدف لبدء إعادة الإعمار، وتحويل عقود الاستثمار الاقتصادية إلى بيئة عمل حقيقي وواقع ملموس، هذه الموجبات السورية تجعل من الضرورة الإقليمية والدولية أن تبدي سوريا تعاونها مع أي خطوة باتجاه السلام والاستقرار.
لكن إسرائيل وكعادتها انتهجت سياسة عدوانية لم تتوقف تجاه محيطها العربي ومنها سوريا خاصة بعد تحريرها من نظام الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، بل على العكس افتعلت القلاقل وغذت النعرات الطائفية والعرقية وعملت على تقسيم سوريا وراوغت وماطلت ورفضت في كل جولات الحوار أي محاولة للتوصل إلى تفاهمات أمنية وسياسية لترسيخ الاستقرار على حدودها مع سوريا.
إلا أن للجانب الأميركي رأياً آخر يستطيع فرضه على إسرائيل، ولجم نشاطاتها العدوانية تجاه سوريا وجرها لإنجاز اتفاق أمني مع سوريا، وهو ما أكده البروفيسور إيال زيسر، الخبير في الشؤون السورية ونائب رئيس جامعة تل أبيب للموقع البريطاني “بي بي سي”، بأن المقترح الأمني المطروح بين إسرائيل وسوريا ليس مجرد مبادرة سياسية، بل خطوة تعكس “توجهاً أميركياً واضحاً” نحو إعادة صياغة العلاقات مع النظام السوري الجديد، موضحاً أن المخاطر على إسرائيل – في حال رفضت سوريا المقترح أو لم تلتزم به – ليست كبيرة.
وأضاف زيسر، أن “المشكلة ليست في الجانب السوري، بل في كيفية تعاطي إسرائيل خاصة أن الحكومة السورية نفسها تعلن حاجتها إلى تفاهم أمني مع إسرائيل، والاتفاق يجب أن يكون شاملاً ليعالج جميع هذه القضايا، وهذا جوهره الحقيقي”.
مؤكداً أن التوصل إليه سيمثل خطوة أساسية نحو تهدئة الأوضاع على طول الحدود وحتى داخل سوريا نفسها.
ما هو اتفاق فض الاشتباك عام 1974؟
تحاول دمشق استرجاع ما قضمته إسرائيل من أراضي سورية بعد التحرير، كهدف لها قبل مناقشة أي مقترحات مهما كان مصدرها بينما تتبع تل أبيب أسلوب المماطلة والتسويف على كل المقترحات السياسية التي قدمتها أطراف عدة متذرعة بتوترات داخلية سورية لا تخلو من أصابع إسرائيلية من تحركاتها خاصة جنوب البلاد.
لذلك تعمل الماكينة الإعلامية الإسرائيلية على الترويج بأن إسرائيل قدمت اتفاقاً أمنياً يعيد تحديد ترتيبات نزع السلاح وانتشار القوات في المنطقة الممتدة من جنوب غرب دمشق وحتى الحدود مع الجولان المحتل، بهدف استبدال اتفاق فصل القوات الموقّع عام 1974، الذي أعلن رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، انهياره من طرف واحد فقط عقب سقوط نظام الأسد في ديسمبر/كانون الأول الماضي.
اتفاقية فض الاشتباك، وُقعت عام 1974 بين سوريا وإسرائيل عقب حرب 6 أكتوبر/تشرين الأول 1973، بهدف الفصل بين القوات المتحاربة من الجانبين وفك الاشتباك بينهما.
ووافقت تل أبيب على إعادة مدينة القنيطرة لسوريا، وضفة قناة السويس الشرقية لمصر، مقابل إبعاد القوات المصرية والسورية من خط الهدنة وتأسيس قوة خاصة للأمم المتحدة لمراقبة تحقيق الاتفاقية، حينها عمل وزير الخارجية الأميركي، هنري كيسنجر، وسيطاً بين سوريا وإسرائيل، وعقدت المفاوضات في العاصمة الأميركية واشنطن، وانتهت بموافقة إسرائيل على الاتفاقية المقترحة في 29 مايو 1974، ووقعتها يوم 31 من الشهر نفسه في جنيف بحضور ممثلين عن الأمم المتحدة والاتحاد السوفياتي حينها والولايات المتحدة.
وتضمنت الاتفاقية ترتيبات لفصل القوات، وحددت خطين رئيسيين عُرفا بـ”ألفا” و”برافو”، ويفصلان بين المواقع العسكرية السورية والإسرائيلية.
كما أنشئت منطقة عازلة بين الخطين، وتخضع لإشراف قوة من الأمم المتحدة تعرف بـ”الأندوف”، وتتكون الاتفاقية من قسمين رئيسيين، الأول مرتبط بآلية فض الاشتباك، أما الثاني فهو البروتوكول الخاص بعمل قوة مراقبة فض الاشتباك (الأندوف) التابعة للأمم المتحدة في المنطقة العازلة.
وجاءت في نصوص القسم الأول من الاتفاقية، المكوّن من 8 بنود رئيسية، ويبلغ طول المنطقة العازلة حوالي 80 كيلومترا، ويتراوح عرضها ما بين 500 متر و10 كيلومترات، بمساحة تصل إلى 235 كيلومترا مربعا.
وتمتد المنطقة على الخط البنفسجي (خط وقف إطلاق النار) الذي يفصل بين مرتفعات الجولان وبقية سوريا، ويحدها من الشمال الخط الأزرق بين لبنان وإسرائيل، وتبعد عن حدود الأردن كيلومترا واحداً من الجنوب.
وعليه، تبقى صيغ التفاهم المحتملة لأي اتفاق أمني بين سوريا وإسرائيل ضمن حدود اتفاق “فضّ الاشتباك” لعام 1974، مع تعديلات تراعي الظروف الراهنة، وتتضمن التزامات لضبط المسار الأمني والعسكري في جنوب سوريا، وأي تعثر أو فشل في مسار الاتفاق الأمني تتحمله إسرائيل التي تصر على عدم الانسحاب من الأراضي التي احتلتها في ديسمبر 2024، إضافة إلى شكل وظروف المنطقة منزوعة السلاح ضمن خطة متشعبة متعددة الأطراف تهدف إلى ضمان الأمن والاستقرار وتراعي التوازنات الإقليمية والدولية.