ازدحام السيارات يهدد هوية دمشق القديمة ويقضم ذاكرة المكان

الثورة – ثورة زينية:

يختصر المشهد اليوم في مدينة دمشق القديمة أزمة متشابكة بين ضرورة الحياة العصرية، وواجب الحفاظ على هوية عمرها آلاف السنين، غير أن دخول السيارات إليها بات يشكل خطراً حقيقياً يهدد هوية المكان وتراثه، ويثير جدلاً واسعاً بين السكان والجهات المعنية حول كيفية الموازنة بين حاجات الحياة الحديثة ومتطلبات الحفاظ على الإرث الحضاري.

فلم تعد دمشق القديمة كما كانت، فأزقتها التي مهدت لتستقبل المارة على أقدامهم تحولت إلى ممرات خانقة تتكدس فيها السيارات وتتصاعد منها أبخرة العوادم بينما تئن الحجارة تحت ضغط عجلات لم تعرفها من قبل.

ضجيج المحركات يبدد سكون الأزقة العتيقة

ففي أحياء القيمرية وباب توما والعمارة باب سريجة والقنوات يشكو الأهالي من ضجيج متواصل وتراجع ملحوظ في جودة الحياة، فالبيوت القديمة لم تعد تنام على الهدوء الذي ميزها، وصدى الأبواق يمتزج بأصوات السائقين الباحثين عن مخرج من زحام لا ينتهي.

يصف الأهالي دخول السيارات إلى المدينة القديمة بأنه تغريب للمكان، إذ تتقلص مساحات المشاة وتتراجع ملامح الحياة التقليدية التي كانت تعتمد على التواصل المباشر والحركة البطيئة.

جورج شليويط، صاحب أحد المحال التجارية في دمشق القديمة، يقول: كثير من الزوار الذين يأتون لاستكشاف سحر المدينة القديمة يجدون أنفسهم محاصرين بين السيارات المتوقفة والمارة، فيفقد المكان جزءاً من جاذبيته السياحية التي تقوم على المشي الحر والتأمل في تفاصيل الحجر والضوء والعراقة.

يروي ربيع تنبكجي، أحد سكان حي العمارة: أن السير في الأزقة بات مغامرة يومية وأن الحجارة التي طالما كانت شاهداً على التاريخ بدأت تتفكك بصمت تحت وطأة الإهمال، ويخشى السكان في الوقت ذاته من أن منع السيارات بالكامل قد يزيد من مشقة الوصول إلى بيوتهم ومحالهم التجارية، مطالبين بأن الحل لا يمكن أن يكون جزئياً، بل يجب أن يشمل إعادة تنظيم شاملة لحركة المرور والنقل في المنطقة المحيطة كلها.

التجار وأصحاب الفعاليات التجارية بدورهم لا يخفون قلقهم من تبدل المشهد التجاري في قلب المدينة القديمة، الأسواق التي كانت تضج بالحركة البشرية تراجعت فيها الخطا أمام زحمة المركبات، وفي مدحت باشا أقدم أسواق الشرق تبدو الصورة معكوسة: زبائن أقل، مداخل مغلقة بالسيارات وجمال المكان الذي كان جزءاً من التجربة السياحية أصبح رهين الفوضى المرورية.

خطط تنظيمية تبحث عن صيغة

مصدر في مديرية دمشق القديمة بين لـ “الثورة” أن البنية التحتية لهذه المنطقة لم تصمم لاستيعاب الضغط المروري الحالي، وأن استمرار دخول السيارات يفاقم الأضرار في طبقات الرصف القديمة وفي أساسات البيوت المجاورة، موضحاً: بعض الأجزاء التراثية بدأت تظهر تصدعات دقيقة بفعل الاهتزاز المستمر والرطوبة ما ينذر بخسائر يصعب تعويضها في حال استمر الوضع على حاله.

تحاول محافظة دمشق حالياً الموازنة بين مطالب السكان وحماية الإرث العمراني، حسب المصدر، إذ تدرس حالياً خطة تنظيم جديدة تهدف إلى الحد من حركة السيارات داخل المدينة القديمة، مع إنشاء مواقف محيطة عند مداخلها الأساسية وتخصيص تصاريح محدودة للسكان الدائمين فقط إلى جانب دراسة مشروع للنقل الكهربائي البيئي يمكن أن يوفر بدائل عملية تحافظ على السكون التراثي للمنطقة.

البنية التراثية تتآكل تحت ضغط العجلات

تشير الدراسات والملاحظات الميدانية إلى أن الأبنية القديمة في دمشق لم تشيد لتحمل الاهتزازات والضغوط التي تسببها حركة السيارات فكل مرور لمركبة عبر الأزقة الضيقة يخلّف اهتزازات متكررة تتسرب إلى الجدران الحجرية والأسقف الخشبية، مسببة تصدعات دقيقة قد تتطور مع الزمن إلى أضرار جسيمة، ومع ازدياد أعداد السيارات التي يسمح لها بالدخول إلى المنطقة، تتضاعف احتمالات التدهور البنيوي في كثير من الأبنية التراثية، وهو ما عبر عنه الخبير البيئي المهندس المعماري ربيع قصيباتي في حديثة لـ”الثورة” ، محذراً من تآكل بطيء للذاكرة العمرانية بسبب الضغط اليومي الناتج عن المركبات.

ويضيف: إن حركة السيارات داخل الحارات المزدحمة تؤدي إلى تلوث واضح في الهواء، فالممرات الضيقة تمنع تجدد الهواء، ما يجعل العوادم والروائح العالقة جزءاً من المشهد اليومي، وهذا التلوث لا يضر فقط بالحجر والبيئة، بل أيضاً بصحة السكان الذين يشتكون من صعوبة التنفس، وارتفاع مستويات الضوضاء في أوقات الذروة، موضحاً: إن الأصوات المتكررة للمحركات وأبواق السيارات تتنافى مع السكينة التي ميزت الحي لعقود طويلة، حين كان صوت البائع المتجول أو نداء المؤذن هو الأكثر حضوراً في المكان.

المدينة تفقد ملامحها الأصلية

الباحث في شؤون التراث نعيم كلاس يحذر من أن استمرار الفوضى سيقود إلى فقدان تدريجي لروح المكان، فالمدينة القديمة لم تبن لتتحمل حركة محركات حديثة بل لتُروى قصصها عبر الخطى الهادئة وصوت الباعة ورائحة الياسمين، ودخول السيارات إلى قلبها لا يبدل شكلها فحسب، بل يطمس ذاكرتها المعمارية والإنسانية معاً.

دمشق القديمة اليوم أمام مفترق طرق حقيقي بين ضرورات المعيشة، ومقتضيات الحفاظ على التراث حسب تعبير كلاس، مضيفاً : تبدو الحاجة ماسة إلى رؤية إدارية واضحة توازن بين الاثنين، فحماية المكان ليست حاجة جمالية فقط، بل واجب وطني يحفظ هوية العاصمة ووجهها التاريخي، وإن إنقاذها يبدأ من إدارة مرور ذكية تعيد إليها هدوءها المفقود، وتعيد للمدينة القديمة حقها في التنفس بعيداً عن ضجيج السيارات وضغط العجلة الحديثة.

وختم الباحث كلاس حديثه: أمام هذا الواقع تبقى دمشق القديمة عالقة بين ماضٍ يرفض الزوال وحاضرٍ يفرض نفسه بقوة الحديد والعجلات، فدخول السيارات إلى هذه المساحة التاريخية لم يعد مجرد مسألة مرورية، بل قضية ثقافية وإنسانية تتعلق بكيفية حماية الذاكرة المادية للمدينة من التآكل التدريجي.

آخر الأخبار
"رويترز".. هل باتت الوكالة البريطانية الوسيلة الأخيرة لترويج تنظيم "داعش" في سوريا؟ ماذا تعني الاتفاقية الأمنية الجديدة بين سوريا وإسرائيل؟ لماذا يترقب لبنان نتائج زيارة الرئيس الشرع إلى "البيت الأبيض"؟ "تجارة حلب" تبحث تحديات قطاع المواد الكيماوية للأدوية ومواد التجميل بعد ارتفاع تعرفة الكهرباء.. المنتج المحلي عاجز عن منافسة المستورد ازدحام السيارات يهدد هوية دمشق القديمة ويقضم ذاكرة المكان فوضى ارتفاع الأسعار مستمرة.. حبزه: التجار يسعرون عبر الواتس آب مستشفى جبلة الوطني.. خدمات مستمرة على الرغم من الصعوبات "مغارة جوعيت" جمال فريد لم يلتفت إليه أحد! الرئيس الشرع يلتقي ترامب في "البيت الأبيض" في هذا التوقيت.. تفاصيل اللقاء ما علاقة زيارة الشرع لـ "البيت الأبيض" بإطلاق العملة السورية الجديدة؟ الزراعة في حلب.. تحديات الواقع وآفاق الاستثمار الواعد الشرع وفيدان في واشنطن.. زيارة ثنائية متزامنة بنفس التوقيت إزالة "الفيميه" .. تعيد الجدل في شوارع حلب حين تفقد الكهرباء عقلها..معركة الطاقة تبدأ من الإدارة تمويل خليجي وخبرة روسية يعيد إحياء الطاقة في سوريا اتفاقيات الحبتور في سوريا نقلة نوعية نحو اقتصاد المستقبل معاون وزير الاقتصاد: وحدات تعبئة المياه تربح 20 مليار ليرة زيارة الرئيس الشرع إلى واشنطن.. بوابة لإعادة الإعمار والاستقرار الاقتصادي 70 بالمئة من زيوت السيارات مغشوشة