الثورة – هنادة سمير:
لم تعد الشهرة تحتاج إلى سنوات من العمل أو إنجازات ملموسة، فكبسة بثّ مباشر قد تغيّر حياة إنسان في ليلة واحدة.
في زمن المنصات الرقمية، يتدفّق المال عبر الهدايا الافتراضية، وتُقاس القيمة بعدد المتابعين لا بحجم الجهد، لكن خلف الأضواء، تتكشف أزمة أعمق؛ شباب يلهثون وراء الأرقام، يتنازلون عن قِيَمهم في سباقٍ نحو شهرة مؤقتة، بينما تتآكل الحدود بين الترفيه والتنازل الأخلاقي.
وهنا لابد من التساؤل؛ هل بات التنازل عن القيم مقابل “الهدايا الرقمية” هو حلم النجاح الجديد لبعض الشباب؟ وما تكلفته الحقيقية أخلاقياً ونفسياً؟
النجاح السريع… معادلة غير مستقرة
تبين الخببرة الاجتماعية سوسن السهلي في حديثها لـ”الثورة ” أن ما يحدث اليوم هو تحوّل في مفهوم القيمة والجهد، تقول: المنصات الاجتماعية منحت الجميع صوتاً، لكنها في المقابل أضعفت العلاقة بين المجهود والنتيجة، فمن يكسب أكثر ليس بالضرورة من يقدّم محتوى أفضل، بل من يجيد إثارة الانتباه ولو على حساب المعايير الأخلاقية.
وتضيف السهلي أن هذا النوع من النجاح اللحظي يشبه فقاعة اقتصادية عابرة: فحين يصبح الدخل مرتبطاً بالمشاهدات والهدايا الرقمية، يفقد العمل معناه ويتحول الإنسان من صانع محتوى إلى سلعة يتابعها الآخرون مؤقتاً، ثم يستبدلونها بوجه جديد.
وترى الخبيرة أن المجتمع الرقمي يعيش مرحلة ما يسمى “إدمان الانتباه”، حيث يُقاس الوجود الإنساني بعدد المتابعين لا بعمق الأثر، وتؤكد أن النجاح السريع بلا قيم هو مكسب ناقص، وإن بدا ظاهرياً أمراً مبهراً.
منصة أم مرآة للفراغ
تتابع السهلي: ما يحدث في البث المباشر لا يقتصر على الترفيه، فكثير من الباثين باتوا يشاركون تفاصيل حياتهم اليومية بدافع جذب التفاعل، لكن وراء الضحك والرقص والتحديات، تكمن مشاعر ضغط خفية تتعلق بالسعي الدائم لإرضاء المتابعين أو الخوف من فقدان الشهرة، وكذلك التنازل التدريجي عن المبادئ.
وتضيف: كانت المنصات وسيلة للتعبير، لكن اليوم أصبحت مرآة لفراغ داخلي يبحث عن تصفيق رقمي والنجاح فيها لا يُقاس بالمعرفة أو المهارة، بل بمدى الجاذبية اللحظية للمشهد.
سلوك يتغير وقيم تتبدل
يركز الخبراء النفسيون على أن ظاهرة البث من أجل المال أحدثت تغيراً ملموساً في سلوك الشباب فبينما يظن البعض أن الهدايا الرقمية مجرد وسيلة دعم، إلا أنها في الواقع تُعيد تشكيل القيم من الداخل، وبذلك لم تعد القيمة في الجهد أو الفكرة، إنما في عدد القلوب الحمراء التي تظهر على الشاشة، تقول السهلي:هنا تكمن الخطورة حين يتحول الإنسان إلى ما يُرضي الآخرين لا إلى ما يُعبّر عنه حقاً.
يتحدث أحد المشاركين السابقين في منصات البث، مبيناً تأثيرها التدريجي على الأخلاق: بدافع الفضول ورغبة لي بخوض تجربة جديدة بدأت بعمل أول البثوث المباسرة وبأفكار بسيطة، لكنني وجدت نفسي أتنازل تدريجياً عن شخصيتي لأُرضي الجمهور، والهدايا المغرية باتت تأسرني.
التأثير النفسي والاجتماعي
يؤكد المختصون في الصحة النفسية أن الانغماس الطويل في البث المباشر يولّد اضطراباً في تقدير الذات، فالشخص الذي يربط قيمته بعدد المشاهدات يصبح أسيراً للمقارنة المستمرة، ويعيش حالة من القلق عند أي انخفاض في الأرقام، وعلى المستوى الاجتماعي، فالعلاقات الواقعية تضعف، كما توضح الخبيرة السهلي، مشيرة إلى أن السهر الطويل أمام الشاشة يعزل الأفراد عن أسرهم، ويُفقدهم التواصل الإنساني الطبيعي، وتكون النتيجة نجاحاً رقمياً يقابله خواء إنساني وفكري.
المنصة أداة… لا غاية
تلفت السهلي الى أهمية إدراك أن المنصات الرقمية ليست شراً مطلقاً، إنما هي أداة يمكن أن تُستخدم لبناء مشروع أو لنشر معرفة أو لإيصال رسالة مفيدة، لكن الخط الفاصل بين الاستخدام الواعي والانغماس الخطير دقيق جداً، والقيمة الحقيقية لا تأتي من تفاعل افتراضي سريع، بل من مهارة واقعية تبني مساراً طويل المدى، كما أن النجاح الأصيل لا يُقاس بما يُعرض على الشاشة، بل بما يُبنى خارجها سواء في السلوك أو في العمل أو في العلاقات، أو في الأثر الذي يبقى بعد انتهاء البث.
دور الأهل والمجتمع
حول من يتحمل المسؤولية عن انتشار هذه الظاهرة ترى الخبيرة السهلي أنه لا يمكن تحميل الشباب وحدهم مسؤولية الانجراف وراء الشهرة السريعة، فالمجتمع، والمدرسة، والأسرة جميعها تتحمل دوراً أساسياً في التوعية، وتؤكد أن مكافحتها تتطلب تعليم الأبناء منذ الصغر أن المنصات ليست بديلاً عن المهارات الحقيقية، إضافة إلى المتابعة الأسرية ومعرفة نوع المحتوى الذي يُعرض والوقت الذي يُقضى أمام الشاشة، يرافقها تشجيع الأنشطة الواقعية، والعمل التطوعي، والهوايات الحقيقية التي تخلق توازناً نفسياً يحمي من الإدمان الرقمي، وتقترح السهلي أيضاً أن تُطلق المؤسسات الإعلامية حملات توعية حول أخلاقيات البث المباشر لتعريف الشباب بالحدود المهنية والسلوكية لهذا العالم الجديد.