أحمد نور الرسلان:
في لحظة تحمل رمزية سياسية عالية، يستعد الرئيس أحمد الشرع لدخول “البيت الأبيض” يوم غد الاثنين، بوصفه أول رئيس سوري يقوم بهذه الخطوة منذ 80 عاماً، في مشهد يعكس نهاية مرحلة طويلة من العزلة التي عاشتها سوريا خلال حقبة نظام الأسد البائد وما خلفه الفار بشار الأسد من قطيعة دولية امتدت لسنوات طوال من الحرب في سوريا.
تجاوزت هذه الزيارة بعدها البروتوكولي، لتشكل إعلاناً واضحاً عن بدء مرحلة جديدة تعمل فيها دمشق على استعادة موقعها كفاعل مركزي في توازنات الشرق الأوسط، بعد أن كانت تُقدَّم لسنوات عنواناً للعقوبات والانعزال.
فمنذ تسلمه السلطة، عمل الرئيس الشرع على إعادة رسم خطوط السياسة الخارجية السورية وفق مبدأ يقوم على تنويع الشراكات دون الارتهان لأي محور، ساعياً إلى تموضع يعيد لسوريا وزنها التاريخي والاستراتيجي.
لكن هل يعاد تشكيل الشرق الأوسط من بوابة دمشق؟
الشرع في واشنطن
تكتسب زيارة الرئيس السوري الحالية لواشنطن أهمية استثنائية، إذ تأتي بعد لقاءين سابقين جمعاه بالرئيس الأميركي دونالد ترامب، الأول في الرياض، والثاني في نيويورك على هامش اجتماعات الأمم المتحدة، وفي حين شكل اللقاءان السابقان اعترافاً دولياً بشرعية القيادة السورية الجديدة، فإن اللقاء داخل “البيت الأبيض” يمثل انتقالاً واضحاً نحو شراكة سياسية وأمنية قيد التبلور.
وكشف المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، توم باراك، أن الزيارة ستتوج بتوقيع وثيقة انضمام سوريا رسمياً إلى “التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب”، بما يمنح دمشق موقعاً متقدماً داخل منظومة دولية كانت مستبعدة عنها خلال العقد الماضي.
وبحسب باراك، فإن دمشق “تستعيد دورها الطبيعي” عبر بناء جيش وطني موحّد وإعادة مؤسسات الدولة إلى إطار جامع.
هذا التطور ينعكس بصورة مباشرة على “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، التي شكّلت لسنوات الشريك الميداني لواشنطن في مواجهة “داعش”، فبينما لا تشير المعطيات إلى قطيعة فورية معها، إلا أن واشنطن باتت تنظر إليها اليوم باعتبارها جزءاً يمكن دمجه تدريجياً داخل مؤسسات الدولة السورية، ضمن عملية سياسية وأمنية متدرجة تحافظ على وحدة البلاد وتمنع نشوء كيانات موازية.
اختبار المرحلة الجديدة
في الجانب الاقتصادي تحمل الزيارة أهمية خاصة لدمشق التي تسعى لتخفيف آثار العقوبات، وفي مقدمتها قانون “قيصر”، الذي عرقل عمليات إعادة الإعمار وأثقل الاقتصاد السوري، ومن المتوقع أن يتصدر ملف إطلاق مشاريع البنى التحتية وتهيئة بيئة تسمح بعودة اللاجئين جدول المباحثات، إلى جانب فتح قنوات مالية عبر المؤسسات الدولية التي تملك واشنطن تأثيراً حاسماً عليها.
وفي الإقليم تتابع إسرائيل التطورات بقلق واضح، إذ تخشى أن يؤدي استعادة الدولة السورية لقوتها ووحدتها إلى تغيير موازين القوى على حدودها، ورغم الغارات الإسرائيلية السابقة ومحاولات خلق مناطق نفوذ في الجنوب، حافظت دمشق على سياسة ضبط النفس لعدم جر البلاد إلى حرب جديدة، مع تأكيد ثابت على أن السيادة ليست مادة للتفاوض.
لعبة التوازن السورية
أما داخلياً فيواجه الرئيس الشرع تحدي إعادة بناء مؤسسات الدولة وتوحيدها، بما يشمل إنهاء التعدد العسكري وإعادة تشكيل العقد الاجتماعي على أسس جديدة توازن بين الأمن والانفتاح السياسي، وهو مسار يدرك الشرع أنه يحتاج إلى وقت وصبر وتفاهمات داخلية وخارجية متوازنة.
وتأتي الزيارة إلى واشنطن في سياق سياسة التوازن والانفتاح التي اتبعها الشرع، فزيارة موسكو التي سبقتها بقليل مثّلت تأكيداً على خيار الندية في العلاقات الدولية، بحيث لا تتحول دمشق إلى تابع في أي محور، بل إلى شريك يحافظ على استقلال قراره الوطني.
في المحصلة تشكل الزيارة لحظة مفصلية تدخل فيها سوريا مرحلة جديدة من إعادة تموضعها السياسي والإقليمي والدولي، فالدولة التي خرجت من حرب قاسية وانقسام داخلي عميق، تدخل اليوم موقع صانع الحدث لا موضوعه، وتعيد رسم دورها من قلب البيت الأبيض إلى جانب الكرملين، في معادلة تقوم على التوازن والبراغماتية وعودة الدولة المركزية.