إنشودة الوفاء من مدينة الأنوار إلى دمشق الشآم

حسين ملحم – باريس:

في لحظةٍ تتجاوز السياسة نحو عمق الإنسان، شهدت العاصمة الفرنسية باريس في الثامن من نوفمبر عام 2025 حدثاً استثنائياً نظمه المجلس السوري الفرنسي برعاية وزارة الخارجية السورية، حيث اجتمع الفكر والوجدان في مؤتمر وحفل تكريمي مهيب احتفاءً بعددٍ من الشخصيات الفرنسية والعربية التي بقيت وفيّةً لمبادئها الأخلاقية وضميرها الإنساني، ولم تتخلَّ عن الشعب السوري في محنته الطويلة.

افتتح رئيس المجلس بكلمةٍ حملت صدق الموقف وحرارة الشعور، حين قال: “بفضلكم لم نكن نشعر بأننا وحيدون، تحيا سورية وتحيا روح التضامن بين من حملوا الإنسانية عنواناً للوجود”، لتلامس عباراته أعماق الذاكرة الجماعية وتعيد تعريف معنى التضامن كفعلٍ أخلاقي لا تحدّه الجغرافيا.

أما مندوب وزارة الخارجية السورية فقد خاطب الحضور بروح متصالحة مع الأرض والتاريخ، قائلاً: “أقف الآن بينكم ليس كممثلٍ للحكومة السورية بل كابنٍ للأرض السورية التي احتضنت على مرّ العصور حضارات متعددة”، مضيفاً أن “دعمكم للشعب السوري ليس موقفاً سياسياً، بل شهادة إنسانية وأخلاقية”، ليحوّل كلماته إلى جسرٍ رمزيٍّ بين السياسة والضمير، بين الخطاب الرسمي وصدق الانتماء الإنساني.

وفي تعبيرٍ مؤثر عن عمق الروابط التي تتجاوز حدود المكان، عبّرت أيضاً السفارة التركية في باريس عن روح التضامن والمصير المشترك الذي يجمع الشعبين السوري والتركي، بكلماتها الفرنسية الرقيقة التي حملت أصدق المشاعر، مؤكدة أن ما يجمع الشعبين أكبر من رابط الجغرافيا، فهو رابط الدم والتاريخ والآلام المشتركة التي صاغت عبر السنين علاقةً أخويةً متجذّرة في الوجدان الإنساني قبل السياسة.

وباقات الشكر وأريجها كانت حاضرةً للجمهورية الفرنسية التي احتضنت كثيراً من السوريين الذين عانوا ويلات الحرب، فوجدوا في فرنسا على امتداد جغرافيتها الحضن الحنون والملجأ الدافئ الذي خفّف عنهم وجع الفقد ومرارة اللجوء.

لقد كانت فرنسا بأرضها وشعبها مثالاً للتضامن الإنساني في أبهى صوره، إذ فتحت ذراعيها لشعبٍ أنهكته الحروب وسُرق أمنه وأمانه على يد الديكتاتورية والطغيان، فكانت رمزاً لضمير العالم الحي، وشريكاً في ترميم إنسانيةٍ حاولت المأساة اغتيالها.

ولم يغفل المنظمون أهمية اللغة كجسرٍ للتفاهم، فكان الحاضران محمد وتسنيم عليوي صوتاً سورياً ناطقاً بالفرنسية، يترجمان للحضور الفرنسيين نبض المعاني وروح الحدث في ترجمةٍ لا تكتفي بنقل الكلمات بل تنقل الوجدان ذاته.

وزاد الحضور تألقاً المفكر السوري الدكتور برهان غليون، الذي ألقى بظلال علم الاجتماع السياسي على المناسبة بحضوره وعقله الرصين، وتم تكريمه تقديراً لمسيرته الفكرية التي ربطت بين الحرية والمعرفة وجعلت من الفكر سبيلاً لمقاومة الاستبداد.

وفي لحظةٍ حملت بعداً فلسفياً عميقاً، وقف الرئيس التونسي الأسبق الدكتور منصف المرزوقي مخاطباً الحضور وموجّهاً كلمته إلى الشعب السوري، فقال إن الشعب السوري “غنيٌّ بتنوّعه وأعراقه، بعربه وكرده، بمسلميه ومسيحييه، بآشورييه وكلدانييه”، مضيفاً أن “أجمل باقات الزهور هي تلك التي تختلف ألوانها وكذلك الشعوب، فأفضلها تلك التي تحتضن مكوّناتها المختلفة في انسجامٍ إنساني واحد”.

وأكد أن “الشعب السوري هو الشعب الأول في العالم الذي يستحق الحرية، لأنه ناضل من أجلها ولم يظلمها، بل آمن بها ودفع ثمنها”، مختتماً كلمته بالقول: “مبروك الانتصار وإلى الأمام”.

كانت كلماته تجسيداً لفلسفةٍ اجتماعية ترى في التنوع مصدر قوةٍ لا انقسام، وفي الحرية جوهر الوجود الإنساني نفسه.

لقد جاء هذا المؤتمر تجسيداً لثقافة الاعتراف والوفاء، وإعلاناً أن الذاكرة الحية لا تموت ما دام هناك من يحرسها بالموقف، وأن الأصوات الحرة التي نادت بالكرامة ستظل شاهداً على أن القيم لا تُهزم وإن تبدلت الأزمنة.

عبّر الحضور الدبلوماسي والثقافي عن وحدةٍ وجدانية نادرة، فيها يتلاقى الشرق والغرب على أرضيةٍ أخلاقية مشتركة، حيث يصبح الدفاع عن الإنسان هو اللغة الوحيدة التي يفهمها الجميع.

وفي ختام المناسبة قُدِّمت هدايا رمزيّة على شكل دروع تذكارية حملت عربون شكر وامتنان باللغتين العربية والفرنسية، تأكيداً على العطاء الإنساني، وأن الوفاء هو المعنى الباقي.

من منظور فلسفة علم الاجتماع، لم يكن هذا الحدث مجرد احتفالٍ تكريمي، بل فعلاً اجتماعياً رمزياً يُعيد للضمير الإنساني مكانته في زمنٍ فقد فيه العالم بوصلته الأخلاقية؛ ففي مثل هذه اللحظات تستعيد المجتمعات قدرتها على إنتاج المعنى من خلال قيم التضامن والاعتراف والذاكرة المشتركة.

إن ما جرى في باريس لم يكن مجرد تكريمٍ لأشخاص، بل إعلاناً فلسفياً عن أن الإنسانية وطنٌ يتجاوز الحدود، وأن المجتمعات لا تُبنى بالقوة ولا تصمد بالسياسة، بل بالضمير الحي الذي يجعل من العطاء شكلاً راقياً من أشكال المقاومة.

تلك هي رسالة سورية اليوم: أن تبقى روحها حاضرة في كل فعل وفاء، وأن يظل التضامن الإنساني الجسر الذي يربط بين القلوب مهما طال المنفى وتعددت المسافات.

آخر الأخبار
الشرع يطرح هذه الملفات على طاولة  ترامب في "البيت الأبيض"  الجهاز المركزي يطور أدوات جديدة لكشف الاحتيال   من واشنطن الشيباني يبشّر السوريين: 2026 عام الانقلاب الكبير! الشرع يلتقي ممثلي المنظمات السورية الأميركية.. ودمشق وواشنطن نحو الشراكة الكاملة  وزيرا سياحة سوريا والسعودية يبحثان آفاقاً جديدة للتعاون كواليس إصدار القرار "2799".. أميركا قادت حملة دبلوماسية سريعة قبيل زيارة الرئيس الشرع الشرع أول رئيس سوري يزور البيت الأبيض بشكل غير متوقع إنشودة الوفاء من مدينة الأنوار إلى دمشق الشآم سوريا تشارك في الجلسة الافتتاحية لمجموعة 77 + الصين في البرازيل إغلاق باب التقسيم: كيف تترجم زيارة الشرع لانتصار مشروع الدولة على الميليشيات؟ الأطباء البيطريون باللاذقية يطالبون بزيادة طبيعة العمل ودعم المربين ملتقى "سيربترو 2025".. الثلاثاء القادم صفحة جديدة في واشنطن: كيف تحوّلت سوريا من "دولة منبوذة" إلى "شريك إقليمي"؟ مكافحة الترهل الإداري على طاولة التنمية في ريف دمشق من "البيت الأبيض": أبرز مكاسب زيارة الشرع ضمن لعبة التوازن السورية ترميم مستشفى درعا الوطني متواصل.. وإحداث قسم للقسطرة القلبية تبادل الفرص الاستثمارية بين سوريا والإمارات الشرع في واشنطن.. وغداً يلتقي ترامب في البيت الأبيض بين غلاء الكهرباء و الظلام..ماذا ينتظر السوريون في الأيام القادمة؟ توقيع سوريا لاتفاقيات الامتياز خطوة أساسية في إعادة بناء البنية التحتية للطاقة