الثورة – لينا إسماعيل :
في حلب القديمة، إذ قضيت أجمل أيام طفولتي، عرفت معنى الأصالة، وكيف يمكن للحجر أن يحكي قصصاًً من التاريخ، في تلك الأزقة الحميمة لا يُقاس الجمال بطول الشوارع أو ارتفاع الأبنية، بل بدفء الذكريات العالقة بين جدرانها.
وفي حي “الجديدة” تحديداً، يتكئ الماضي على كتف الحاضر كعجوز حكيم يروي حكاية مدينة لا تعرف الفناء، بين الحجارة العتيقة، تختلط رائحة الزمن بعبق التاريخ، لتهمس الشهباء في أذن زائرها: أنا الذاكرة التي لا تموت.
لوحة فريدة
حين امتد العمران خارج أسوار المدينة القديمة شمال باب الفرج على الطريق المؤدي إلى باب النصر، تأسس حي الجديدة، وذلك في عام 1500 ميلادي، وأصبح الحي لوحة معمارية فريدة تجمع بين الشرق والغرب، بين البساطة والعراقة، وبين أصالة الماضي وروح الحاضر.
القصب بوابة الحكايات
يحتضن حي الجديدة العريق بوابة القصب، التي تتألف من مدخلين حجريين متتاليين، شُيّدا من الحجر الكلسي المنحوت، وسُقفا بأقبية شبه أسطوانية ترتكز على أكتاف حجرية متينة، وبين تلك الأكتاف تفتح المحال التجارية نوافذها كعيون يقظة تراقب المارة منذ قرون.
أما أصل التسمية فتحكي الروايات أنها جاءت من نبات القصب المزروع بجوار ساقية مالحة، أو ربما من صناعة خيوط القصب التي اشتهرت بها المنطقة، وتحيط بالبوابة المشربيات الخشبية المنحوتة التي تشهد على الذوق الفني الحلبي الرفيع.
عبير الذكريات
بعد عبور الطريق البازلتي من بوابة القصب شرقاً، تتجه الأزقة شمالاً نحو بوابة الياسمين، إذ تتفتح شجيرات الياسمين على جدران البيوت كأغانٍ بيضاء لا تذبل، ويحتضن الحي بيوتاً عربية من القرن الثامن عشر، مثل بيت أجقباش ودار غزالة، إذ تحولت الأولى إلى متحف للتقاليد الشعبية، والثانية لمتحف ذاكرة المدينة، متجلية فيها روعة الفن المعماري الحلبي في الزخارف الحجرية، والأفنية الداخلية والنوافير الرخامية.
الترميم واستعادة الحياة
حول واقع الحيّ اليوم، وانعكاسات ارتدادات سنوات الحرب الطويلة على خصوصيته الآثارية أوضح إسماعيل كردي مدير المكتب الإعلامي في مديرية الآثار والمتاحف “للثورة” أن حي الجديدة يضم مباني هامة مسجلة بحد ذاتها، إلى جانب النسيج العمراني التاريخي، الذي تعرض لأضرار متفاوتة خلال الحرب.
وقال كردي: “إن بوابتي القصب والياسمين من أقل المواقع تضرراً مقارنة ببقية أجزاء الحي، وهو ما سهّل عودة عدد كبير من الأهالي إلى منازلهم، أما بعض المناطق الأخرى، خصوصاً قرب جامع شرف، فقد شهدت أضراراً جسيمة تستدعي أعمال ترميم شاملة”.
وبيّن أن المديرية تعمل على محورين: الأول يشمل ترميم الممتلكات التابعة للمديرية، مثل بيت غزالة ومتحف التقاليد الشعبية “بيت أجقباش”، أما الثاني فيتعلق بمتابعة النسيج العمراني العام بالتعاون مع مديرية المدينة القديمة، من خلال دوريّات ميدانية يومية لمراقبة المباني، ومنح تراخيص الترميم عبر آلية النافذة الواحدة.
وختم قائلاً: “نعمل جاهدين للحفاظ على هوية المدينة القديمة وإعادة الحياة إلى شوارعها، فكل حجر فيها يمثل ذاكرة جماعية لا يمكن التفريط بها”.
فسيفساء الروح الحلبيّة
من الجدير ذكره أن أهم ما يميز حي الجديدة أنه يضم كنائس وكتدرائيات من القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، أبرزها: كنيسة الأربعين شهيداً، وكاتدرائية الأرمن الكاثوليك، وكنيسة الروم الأرثوذكس، وكنيسة السريان الأرثوذكس.
هنا تتجاور المآذن مع أبراج الكنائس، لتشكل مشهداً فريداً يرمز للتسامح والانسجام، ويجسد روح حلب القديمة التي لا تعرف الغياب.
شرايين الزمن
تمتد بين بوابتي القصب والياسمين شبكة من الأزقة البازلتية، لتشكل نسيجاً عمرانياً متكاملاً يعكس هوية المدينة التاريخية، كما كتب المؤرخ الحلبي أحمد الغريب: “في حلب، حتى الحجر يتنفس التاريخ، وكل زاوية تروي حكاية وطن من ضوء وذاكرة”.
فلا زالت صورة تلك القناطر في ذاكرتي، وكيف يتسلل الضوء من بينها في كل صباح حلبي جديد، كنت أحسب، وأنا في طريقي إلى مدرسة “الفضيلة” الابتدائية العريقة، أن عطر الياسمين يختلط بظل الأزقة، فأستنشق عبق التاريخ الممزوج بالألفة والأمان، إنها حلب، رغم كل ما مرت به من النوائب، بوابة نور مفتوحة للحياة وذاكرة لا تعرف الغياب.