الملحق الثقافي- نداء الدروبي:
يعدّ سامي برهان واحداً من أهم الفنانين العرب في مجال الحروفيات، كونه لم يعتمد على الجانب التشكيلي فيها فقط؛ وإنما تعمَّق بدراسة الأصول التاريخية للكتابة، مطوِّراً تشكيلاته داخل ثقافة الخط العربي، كما تمكَّن من الوصول إلى نتائج بصرية لتكون مقروءة لكلِّ الجمهور، إضافة إلى التركيز على الجماليات الشكلية.
بداياته
اهتمَّ بالخط والأرابيسك من والده الذي اعتبره معلمه الأول، ما دفعه ليرسم ويخطِّط ويُلوِّن، وكانت أول لوحة نفَّذها عام (١٩٣٩) في المرحلة الابتدائية، وحينما رأى أستاذه في المدرسة موهبته الواضحة أصبح يطلب منه رسم وكتابة لوحات الشرف ونسق من الخطوط على السبورة كي يتعلَّم منه زملاؤه صفَّ الخطوط.
وفي عام (١٩٤٤) تتلمذ على يد الأستاذ الشيخ حسين حسني رئيس خطاطي السلطان عبد الحميد سابقاً، وكان يعمل في العطل النصفية رساماً مزخرفاً للمطرزات، ويتقن رسم الورود والأزهار نتيجة محبته الخالصة للفن الإسلامي الرائع الذي بهره منذ الصغر بشدة فهام في خطوطه وزخارفه الدقيقة، ونهل منه الكثير، وكم بهرته عبارات وآيات الخط في المساجد الإسلامية وعلى شواهد القبور! إنه بحق فن مهم في تاريخنا السامق، وكثيراً ما كان يردِّد العبارات ذاتها، متذكِّراً اللوحة التي دبَّج مفرداتها الخطاط المحترف (بكري ناعورة) على الواجهة القبلية لكتاب الشيخ في حيِّهم وهي آية: (نبِّئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم)، وعندما رأها حُفرت في مخيلته إلى الأبد، الأمر الذي كان له الأثر البالغ في تنمية حبه الأول في سنٍّ صغيرة.
قال سامي برهان: (نوافذي مفتوحة على جميع الحضارات؛ إلا أنني لن أسمح لأيَّ حضارة بأن تقتلعني من جذوري.. إذا كانت جذور الفنان ثابتة فلا تخشى عليه).
ومنذ أوائل الخمسينات ذهب لتعلُّم الفن في أوروبا، حاملاً إيماناً كبيراً في داخله لخدمة الحرف العربي دون تأثُّره بالآخرين، وهذا الإيمان كان نابعاً من جذوره العميقة المنغرسة منذ البدايات في داخله.
وبهذا كان أول فنان تشكيلي استفاد من الناحية الغرافيكية للحرف ونقله إلى التصوير والنحت.
وفي عام (١٩٥٧) ذهب إلى باريس كي يكمل دراسته، وهناك كتب عنه «ماسبنيون» في احدى كتبه عن الجمالية الإبداعية في الخط العربي لدى سامي برهان ومدى الموسيقى الموجودة فيه، والمستمدَّة من لون الرمل.
قال الفنان: (لماذا السعي دائماً لتقليد الأوروبي ما يجعل فننا العربي المعاصر ظلالاً لفنِّ الآخر).
عاش الفنان على فلسفة الحرف، وكان خطاطاً ونحاتاً.. انتمى إلى الرعيل الأول من الفنانين السوريين والعرب، وأدرك جماليات الحرف العربي في لوحاته وسحر الفن الحروفي النابع من العمق الفلسفي المرتبط ارتباطاً روحياً بالبعد الديني وبطقس صوفي كما يواءم بين الحضارة العربية الموغلة في القدم وبين التقنيات الغربية الحديثة ضمن صياغات مدروسة متجانسة ومتآلفة بين شكل البناء المعماري لخط الثلث وبين ليونة الكوفي والصيغ اللونية المُبرزة للهيكلية ولمتانة العمل الفني، وهو من أهم فناني العرب في مجال الحروفيات كونه لم يعتمد على الجانب التشكيلي فيها فقط؛ وإنما تعمَّق جيداً بدراسة الأصول التاريخية للكتابة مطوِّراً تشكيلاته داخل ثقافة الخط العربي، والسعي للوصول إلى نتائج بصرية وضَّحت العلاقة المباشرة التي أرادها مكتملة مع الأصل العربي لتكون مقروءة للجمهور، إضافة إلى التركيز على الجماليات التشكيلية التي تحفل بها اللوحة، والتي يُمكن قراءتها من قبل مَنْ لا يعرف اللغة العربية، فالفنان يعمل على إحداث إيقاع وموسيقى في الحرف فيلعب بنسب وشكل الحرف لذا برز الخط العمودي مختلفاً عن الدائري والأفقي المنحني أو المستقيم أو المائل، كما أنَّ اللوحة لديه تأخذ اتجاهات عديدة وتعطي تعبيرات دلالية متنوعة. فمثلاً الخط العمودي يُعبِّر عن الحياة لأنه حار، والإنسان الحي منتصب القامة، كذلك الشجرة والإنسان الميت يكون جسده أفقياً، أما الحرارة فتأتي من الحياة والحيوية.. الدم الحي حار؛ بينما الدم الميت بارد.
إذن، شكَّل الحرف لبرهان علاقة بالحركة التي تعتبر ثروته وقيمته، كذلك رأى الأم الرؤوم منحنية، والانحناء دليل التواضع والرحمة والشجرة المثمرة، والحرف له فلسفته التشكيلية الجميلة، وهو يسعى للاستفادة منها في صياغة اللوحة.
جذور الفنان ثابتة وعقلانية
لكن إذا حاول تقليد الأوروبيين سوف تضيع جذوره الفنية والحضارية.
قال الفنان: (أنا أعتب على الفنانين الذين ذهبوا للغرب ليتعلَّموا من فنه؛ ونسوا أصولهم وثقافاتهم وانضموا تحت لواء الفن الغربي وعادوا إلى بلادهم غرباء فأصبحوا لاغربيين ولاشرقيين).
إنَّ الفنان الحقيقي يجب ألا يتوقَّف عند ما يرغب الناس به من الفن؛ بل يجب أن يُقدِّم لهم الثقافة المهمة، لذلك يجب أن يكون الفنان جدِّيَّاً مع ذاته ورسالته الفنية القيِّمة، ويدرس أساسه الحضاري وتراثه، وهو يرى أنَّ تراثنا العربي غنيٌّ جداً، ويمكن توظيفه وصياغته واستثماره في أعمالنا الفنية. على سبيل المثال: التجريد في الكتابة العربية حضارات أوجاريت، ورأس شمرا يُمكن استثمارها في صياغات جمالية، وخاصة أنَّ الكتابة أهم اختراع في تاريخ الحضارة وقدسيَّة الحرف: صفاته وقدسيته النابضة من أسراره وفلسفته، وقد اهتمَّ المسلمون بتجويد القرآن الكريم وألفاظه وكتابته، وهو نوع من العبادة، وكان الخطاط يقبل عليه كما يقبل على الصلاة فيتوضَّأ قبل الكتابة.
بعد الدراسة في باريس عاد إلى سورية ليزيد من ثقافته، إذ رأى أنَّ الحروف العربية مع خلفيات ملوَّنة لا تكفي لإغناء اللوحة فدرس حضارة ما بين النهرين والحضارة الآشورية والبابلية والفينيقية والحميرية… إلخ، ما زوَّدته بثقافة غنية وزخم جديد، ومنحته القوة للدخول إلى عالم حروفي جديد، وهذا ما عاد به إلى إيطاليا، كما نظَّم في عام (١٩٧٠) «معرض برهان اليوم وبرهان الأمس»، واهتمَّ الناس بأعمال برهان اليوم لأنها لوحات حروفيَّة خالصة، إذ عاد فيها إلى الحرف المُتسم بخبرة تاريخ الحضارات الشرقية القديمة والإسلامية الغنية بالزخرفة والثقافة، مطلعاً على إبداع أعلام الخط العربي، ثم طلبوا منه تدريس جماليات الخط العربي في كلية الآداب- قسم الدراسات الإسلامية في روما، وكان أول مَنْ درَّس المادة في جامعات إيطاليا.
قال الفنان: (كلُّ هذه العوامل ساهمت في رفع عزيمتي للاستمرار بهذا الاتجاه؛ ولكنها وحدها لا تكفي للاحتراف، لقد ثابرت كلَّ يوم لمدة ساعتين على كتابة الخط التقليدي بقلم القصب لخطَّي الثلث والكوفي، لتبقى على انسياباتها العفوية في لوحتي، ولتساهم دائماً في تطوير عملي الفني إلى جانب اطلاعي الجيد على تشريح جسد الإنسان).
وفي نهاية حياته استقرَّ داخل روما إلا أنَّ زياراته لم تنقطع للمدن العربية، والدليل أنه في عام 2020م قرَّر العودة إلى مسقط رأسه حلب، واشترى مزرعة صغيرة في ضاحية قريبة من قلعة سمعان؛ إلا أنها دُمّرت أثناء الحرب الكونية على سورية ونهب ما فيها، فعاد إلى روما، وأقام هناك في دار المسنين حتى توفى عام ٢٠٢١.
العدد 1201 – 13 -8-2024