الملحق الثقافي- حسين صقر:
عبارات وجمل كثيرة اعتدنا سماعها، من ليس معنا فهو ضدنا، وجامل ولا تجادل، والجدل البيزنطي، والنقاش لايفسد للود قضية، واسمعني للآخر، وشاور وخالف ولك الحرية، وكلمات كثيرة ودعوات أكثر، ولكن مع كل أسف، كانت النتيجة أن ما يتوافق ومصالح الآخرين أو الطرف المعني بالنقاش يتم تعويمه وما يتعارض معه، يتم خنقه وتنويمه.
الحكم الفيصل في هذه القضايا وما سواها، هو العقل، فهو المحكمة والقاضي والمشرع والمقونن، ولابد من الرجوع إليه حتى في القضايا العاطفية، وفيه تناط كل الأسس والقيم والمبادئ، وهذه حقيقة لايمكن نكرانها، وتحل إشكالات كثيرة، وتأخذ صورتين مختلفتين للحوار كما مارسه سقراط والنقد كما مارسه كنط، وذلك بهدف تأسيس فلسفة مختلفة تشكل قانوناً للعلاقات الاجتماعية، إذ ليس من المعقول أن كل من يخالفني الرأي يكرهني ولايريدني وليس من صفي، فالاصطفاف مع الحق قضية لم نرق بعد بالوصول إليها، وكل من يخالفنا الرأي إما أن نجلده بالكلام وذلك غالباً في غيابه لأننا نخشاه، وإما بالمعاملة والابتعاد والتباعد والدعوة والترويج إلى نبذه وعدم مخالطته أو مشاركته.
فالعقل الذي نتكلم عنه ليس إذن العقل المحاور ولا العقل الناقد، وإنما هو العقل المسؤول الذي يمارس النقد على ذاته تماماً كما يمارسه على غيره، ولايخشى في قول الحق لومة لائم، والوصول إلى قناعة من صاحب القول، إن رزقي على الله، ومسايرة عبيده على نكران الحق والتصفيق للباطل ينقص من ذلك الرزق، إنه فهو العقل الذي لا يطرح الأسئلة كيفما اتفق ولمجرد السؤال، وإنما هو الذي لا يسأل إلا السؤال الذي يلزمه، وضعه لأهميته، وبالتالي يلزمه الجواب عنه.
إن نكران الحق موضة دارجة هذه الأيام، والاختلاف في الرأي بات مشكلة حقيقية عند من لايقدرون معنى الانفتاح وأهمية قول الحق مهما كانت العواقب، حيث قول الكلمة في وقتها وحينها يحدد وجهة المعالجة اللاحقة ويوضح أبعاد المشكلة ومقتضياتها.
هذا النهج في التفكير يقتضي التصدي لمفهومين ليس أضرّ منهما في هذه الظروف الراهنة وهما: « مفهوم الفكر الواحد» و«مفهوم الأمر الواقع» وقد أضحى الأول نوعاً من التسوية المفروضة لإرضاء الآخرين، وتسليط الضوء على نمط فكري واحد تفرزه ثقافة واحدة هي ثقافة الأقوى والتي تفرض بالقوة وليس بالدليل والحوار.
قوة المال وقوة السلطة والجاه والنسب، وبالتالي إكراه على قبول الواقع، وهذا بحد ذاته شر على البشرية وعلى العقل والمنطق والحكمة، كما يخالف الممارسة الفلسفية من جانبين اثنين، جانب الاعتراض الذي تنبني عليه الفلسفة التي لا تقبل بواقع لا يمكن تغييره، بل لأنها تعمل دائماً على إحياء مقولة: إن الواقع يتغير، وجانب الحق الذي تدعو إليه الفلسفة التي ترفض معيار الحكم على الأمر الواقع من باب المصلحة وليس الحق.
ولهذا لابد للمثقف من أن يلعب دور إحياء الاختلاف بالرأي لأنه حالة صحية، وأن يصر على ضرورة إنتاج فلسفة خاصة بالشريحة التي تشبهه إيماناً بحق كل قوم في الاختلاف وإيماناً بحاجة الأمم إلى الدخول في علاقات حوارية، ولاسيما أن الاختلاف يعزز الحوار، ويوصل إلى نتائج صحيحة، ويؤمن الاتصال بين المختلفين والمتلهفين لقول الحق، وخاصة أن الحوار والاختلاف مشروعية لفتح باب الحوار النقدي الذي ينتفي معه العنف والخلاف، الحوار الذي يخدم المجتمع والجماعة بحيث تكون علاقات التعامل قائمة على مقتضى المساواة والحقوق بين الأفراد، هذا من جهة، ومن جهة ثانية على مقتضى جمع الأفراد حول الرأي الصائب من آرائهم.
إذاً لابد من الحوار الصحيح المبني على المنطق وقبول الآخر وتقبله بغض النظر عن العلاقات والمصالح الشخصية، ولا بد من البحث عن فلسفة خاصة بنا تلبي الحاجة التي تناسبنا ونتماهى بها وتتماهى بنا، فالحاجة ملحة لها لكونها تخلق فكراً مختلفاً متميزاً يجعلنا نرفض كل ما لايتناسب مع قيمنا ومبادئنا.
العدد 1202 – 27 -8-2024