بقلم: راجح عبدالجواد
منذ اندلاع الحراك السوري في عام 2011، وجدت سوريا نفسها خارج المعادلة الدولية، بفعل العزلة السياسية والعقوبات الاقتصادية والتهميش الدبلوماسي.
هذه العزلة لم تكن مجرد موقفٍ عابر، بل مسَّت عمق الدولة ومؤسساتها، وأثّرت في النسيج المجتمعي السوري، الذي تحمّل وحده عبء الانقسام والدمار والتشظّي.
واليوم، وبعد أكثر من عقد من النزاع والتدخلات المتشابكة، لم يعد ممكنا الحديث عن مستقبل مستقر للمنطقة من دون وضع سوريا على مسار الاندماج الإقليمي والدولي، كضرورة لا ترف، وكجزء من معادلة الأمن الإقليمي الشامل، وإعادة الإعمار، وعودة الاستثمارات، واستئناف الحياة السياسية والاقتصادية على قاعدة العدالة والكرامة.
الدمج كعملية استراتيجية لا مجاملة دبلوماسية
لا يُفهم من إعادة دمج سوريا في محيطها العربي والدولي مجرد الاعتراف بشرعية سياسية أو رفع تدريجي للعقوبات، بل المقصود هنا عملية أعمق وأكثر تعقيدا، تتضمن إعادة تأهيل الدولة السورية كمؤسسة وطنية جامعة، وربطها مجددا بالنظام العالمي ضمن شروط تحفظ سيادة البلد وتحقق تطلعات شعبه.
الدمج هو مشروع إعادة بناء للثقة، ليس فقط مع الخارج، بل داخل الحدود الوطنية، أولًا: بين المواطن ودولته، وبين الداخل والخارج، وبين الدولة والمجتمع.
الاستقرار الإقليمي على المحك
استمرار سوريا كساحة مفتوحة للصراع أو كدولة هشّة، يهدد بنية الأمن الإقليمي بأكملها، فالجغرافيا لا تسمح بالتجاهل، والفراغ السياسي دائما ما يستدرج مشاريع خارجية.
دمج سوريا في النظام الدولي هو في جوهره مشروع تحصين للمنطقة من مزيد من الانهيارات، ولا سيما في ظل ديناميكيات أمنية معقّدة.
تركيا: الجار المهيمن والحاضر في كل تفصيل
تلعب تركيا دورا مركزيا في المعادلة السورية، ليس فقط بسبب الجوار الجغرافي، بل لتشابك ملفات الأمن القومي، وملف اللاجئين، والوجود العسكري المباشر، واستضافة أنقرة لما يزيد على 3.5 ملايين لاجئ سوري، لم تكن مجرد استحقاق إنساني، بل خطوة سياسية تحمل أبعادا استراتيجية.
تركيا اليوم ترى في قيام كيان كردي على حدودها تهديدا مباشرا، ما يجعل من استقرار شمال سوريا قضية أمن قومي أولا وأخيرا.
من هنا، فإن أي تصور لدمج سوريا، لابد أن يأخذ في الاعتبار موقع تركيا ومصالحها المعقّدة، والسعي إلى تحويل الدور التركي من عامل احتكاك إلى شريك في الاستقرار.
قطر: دبلوماسية فاعلة وموقع مرن
منذ اللحظة الأولى، اختارت قطر أن تقف إلى جانب الشعب السوري، داعمةً لمساره السياسي والإنساني، من دون أن تقطع خيوطها مع الممكن الدبلوماسي.
هذا التموضع منحها دورا فريدا في الملف السوري، فهي وإن بدت داعمة للمعارضة، إلا أنها لم تحرق جسور الحوار، ما يمنحها فرصة ثمينة لتكون وسيطا محتملاً في مراحل ما بعد الصراع.
قطر، بإمكاناتها المالية وحنكتها الدبلوماسية، قادرة على أن تكون جزءا من الحل، وخاصة حين يتعلق الأمر بإعادة الإعمار ودفع العملية السياسية وفق القرارات الأممية، وفي مقدمتها القرار 2254.
الولايات المتحدة: صانع التوازنات وحدود الدمج
أما واشنطن، فتبقى لاعبا لا يمكن تجاوزه.
أدواتها قد تكون غير مباشرة، لكنها فعّالة: عقوبات مشروطة، دعم عسكري محدود، وضغط دبلوماسي ممنهج.
موقفها من دمج سوريا واضح: لا اندماج بلا إصلاح سياسي حقيقي، ولا تطبيع بلا ضمانات واضحة تضع حدا لإعادة إنتاج القمع أو تكرار المأساة.
الولايات المتحدة تدير الملف السوري وفق ما يمكن تسميته بـ”البراغماتية المدروسة”، وتبقي الباب مفتوحا أمام التسويات المشروطة، لا الانخراط الكامل.
وأخيرا، بين الإرادة الوطنية والمسؤولية الدولية
دمج سوريا في العالم ليس نداءً أخلاقيا فقط، بل هو مشروع سياسي واستراتيجي يرتبط بمصير شعب أنهكته الحروب، وشكّل أمنه الداخلي ضرورة إقليمية. ومن دون تعاون دولي حقيقي، وإرادة وطنية جامعة، سيبقى الحل معلقا، والدمج مؤجلًا.
المسؤولية هنا جماعية، واللحظة مفصلية، والتاريخ لا يرحم المتقاعسين.