الثورة – أحمد صلال – باريس:
نعى الوسط الثقافي السوري في فرنسا الشاعر الروائي والكاتب السوري معبد مصطفى الحسون، الذي وافته المنية يوم الجمعة المنصرم في منفاه القسري في فرنسا، عن عمر ناهز 68 عاماً، بعد صراع مع المرض، وجاء رحيله بعيداً عن مدينته الرقة، التي شكلت مسرحاً أساسياً في أعماله الإبداعية والبحثية.
عرف الحسون بنضاله الطويل ضد الديكتاتورية، وكان من الأصوات الأدبية والسياسية الصلبة التي آمنت بثورة السوريين منذ انطلاقتها. اعتُقل مطلع الثمانينات على خلفية نشاطه السياسي، وقضى أحد عشر عاماً في معتقلات النظام السوري، أبرزها سجن تدمر، قبل أن يواصل نضاله من المنفى في تركيا ثم فرنسا.
ولد الراحل في مدينة الرقة عام 1957، وحمل إجازة في الأدب العربي من جامعة حلب. له عدة مؤلفات بارزة في الرواية والبحث التاريخي، من بينها: “الرقة والثورة: شهادة شخصية”، وروايات “الحب”، “الشفق الأخير”،”الحرب” و”قبل حلول الظلام” التي وثّق فيها تجربته في السجن.
القمر الذي لايغيب!
“مع فُجاءة الموت التي عصفت بي، وألم الفقد الذي انتابني، على وقع خبر وفاة الصديق معبد الحسون، أسرعت إلى روايته ” الشفق الأخير ” وكأنّي أستأنسُ بوجوده فيها، وما صَدَّرَ في صفحتها الأولى من عبارة تقول :
” القمر لا يغيب كما نتوهم ..
نحن الذين لا نراه آخر الشهر ..
نحن الذين نغيب ..
حين ينبلج الشفق الأخير .
كانت هذه الكلمات قد استوقفتني بمعناها العميق عندما قرأتها أول مرة، “بهذه الكلمات يختار أن يبدأ الشاعر السوري بسام البليبل حديثه لصحيفة “الثورة” عن الراحل الحسون؛ ويكمل” أما اليوم فإني أقرأها بكثير من معاني المواساة والتَّصَبُّر، وكأنَّ معبد الحسون يعزيني بموته، ويقول لي، أنّه لم يغب وإنْ كنّا لا نراه. مثلما القمر في المحاق، صحيح أننا لا نراه عندما يكون موازياً للشمس، ولكن ذلك لا يعني أنّه غير موجود. “ويستطرد البليبل” نعم يا معبد، عزاؤنا أنك موجود في دواخلنا، وفي ما سَطَّرتَ من إبداعات، وما تركتَ من أثرٍ طيبٍ في نفوس الناس، ولكن وقع غيابك كان شديد الإيلام حتى أنّه أعجز كلماتي عن رثائك، فاستعرت أبيات مهيار الديلمي:
أبكيكَ لا ما تستحقُّ وجهدُ ما
تَسَعُ الصبابةُ أن تسيلَ محاجري
وأُشاركُ النُّوَّاحَ فيكَ بأنني
أرثيكَ فالتأبينُ نوحُ الشاعرِ
وينهي حديثه البلييل ” فإن كنتُ قد استعرتُ أبيات غيري، فلأنني أجد كلَّ مرثيةٍ في صديقٍ أو قريب، هي مرثيةٌ فيك يا معبد، مثلما كان يرى متمم بن نويرة كلّ قبر هو قبر أخيه مالك :
فقالَ: أتبكي كلَّ قبرٍ رأيتَه
لقبرٍ ثوى بين اللّوى فالدكادكِ
فقلتُ له إنَ الشجا يبعثُ الشجا
فدعني فهذا كلُّهُ قبرُ مالكٍ”.
معبد الحسون…شعلة نضال لن تنطفئ
” معبد مصطفى الحسون ( 1957- 2025 ) شاب أدركه النضال والعمل السياسي المعارض مبكراً، ولا غرابة في ذلك؛ فهو ابن الشاعر والآثاري مصطفى الحسون، الذي أطلق عليه أبناء مدينته لقب ” البحتري الصغير” وقد استحق لقب حارس الذاكرة، فقد عاش عمره كله يحرس سور الرقة وآثار خلفاء بني العباس فيها، نشأ معبد رحمه الله في كنف هذه الأسرة التي تتداول الشعر والتاريخ والسياسة يومياً، وتحرص على المكتبة حرصها على الطعام والشراب، وهو أخ للمترجم عن الإيطالية الأديب معن مصطفى الحسون، تخرج الراحل في جامعة حلب بدرجة الإجازة ( البكالوريوس) في اللغة العربية وآدابها، “بهذه الكلمات يبدأ الشاعر والروائي والكاتب السوري الدكتور موسى رحوم عباس ،حديثه لصحيفة” الثورة”عن نشأة وتكوين الحسون ؛ويكمل رحوم قائلا:” ولم يطل به المقام حتى داهمته قوى الظلام، واعتقل عام 1980 زمن حكم الأسد الأب، وقضى في سجن تدمر سيء الصيت إثني عشر عاماً كتب الرواية، ووثق للثورة السورية، ولمدينته الرقة بخاصة، كما رصد الحراك الثوري بالتفاصيل الدقيقة.” ويكمل رحوم حديثه عن الراحل”عرف بموقفه المعارض والحاد للنظام السوري، واستمر منافحا عن الحرية والكرامة للمواطن السوري، شارك في الحراك الثوري من بدايته، ولم ينل منه الإحباط، أو اليأس، فكان ينظم المظاهرات، ويكون في الصفوف الأولى، ويدعم الأعمال الإغاثية حسب المستطاع، جوادا من وسعه”. ويستطرد رحوم حديثه عن نتاج الراحل الأدبي” من أبرز أعماله الروائية” قبل حلول الظلام” وهي من أدب السجون، فضح فيها أفظع أساليب التعذيب وانتهاك كرامة البشر. كتابه” الرقة والثورة” تتبع علاقة النظام السوري بداعش وجرائمها، روايته ” الحرب” عمل روائي مميز، وله عشرات المقالات العميقة تنبي عن معرفته الدقيقة للتاريخ السياسي والاجتماعي للرقة بخاصة، وأهمها مقالاته الموسومة ” الرقة من العشيرة إلى المدينة، دويلات عابرة، البعث والجهاديون” .”لجأ إلى تركيا 2014 ، ثم إلى فرنسا 2016، فقدت سوريا برحيله مناضلا عنيداً، وشخصية فريدة، رحمك الله أبا حسام، كنت ملهمًا في كلِّ مراحل حياتك.” بهذه الكلمات ينهي رحوم حديثه.
النبيل الذي لا يُنسى
” لم أصدق الخبر فبادرت بالاتصال بالأصدقاء علّ أحدهم ينفيه، لكن أحدهم أبلغني بأن مازن ابن أخيه قد أذاع الخبر فهو صحيح أكيد فجلست وحيدة أتذكر سنوات ومواقف كثيرة ودموع تنزل من عيوني دون توقف”، بهذه المشاعر الجياشة تبدأ الكاتبة والسياسية السورية منى فريج حديثها لصحيفة “الثورة” وتكمل فريج” حتى بدأت تتوالى عليّ الأسئلة من الأصدقاء والصديقات: ما سرّ هذا الحزن في صوتي؟ من هو “أبو حسام” ولماذا كل هذا الحزن عليه “وتجيبب فريج عن سؤال عميق
من هو معبد الحسون الذي لم يسمعوا باسمه من قبل ؟وتجيب”نظرت لهم وألم يملأ قلبي ولا أملك جوابًا أبلغ من أن أقول: هذا ما أورثنا إيّاه نظام الأسد البائد جهلاً بأسمى النبلاء، بأولئك الأنقياء العظماء، أبناء المدن المنسية الذين لم يطلبوا سلطةً ولا جاهاً، بل اختاروا الوطن والمبدأ طريقاً، والصدق زاداً، والكلمة سلاحا”.
وتستطرد فريج حديثها عن علاقتها بالراحل” عرفت معبد الحسون في عام البكالوريا، حين كنت في الثامنة عشرة. خالته، مديرة مكتبة ثانوية عمر بن الخطاب، بشّرتنا ذات صباح بأن ابن أختها قد خرج من المعتقل. تحدثت عنه بحنان، عن شبابه وجرأته وعائلته العريقة، فبدأتُ رحلتي في اكتشاف اسمه. قرأت كتاباته، وكتابات والده، ذاك الرجل الذي كان أيضاً علماً من أعلام الرقة: الشاعر، الأديب، والعاشق الأبدي لمدينته مصطفى الحسون، قائلةً للتبيان أكثر: “لم يكن معبد من أولئك الذين يتهافتون على المناصب، ولم يسعَ يوماً لأن تُسلّط عليه الأضواء، اختار أن يكون نبيلاً بصمته، كبيراً بتواضعه، حراً بفكره، انقطعت أخباره عني لسنوات، حتى جاءتني لحظة لا تُنسى في أولى سنوات الثورة. قال لي أحد الأصدقاء إن شخصاً يرغب في لقائي، ولمّا أخبرني أن هذا الشخص هو معبد، شعرتُ بفرحٍ لا يشبه شيئاً. التقينا، في بيت جيراننا “الحوارنة”، وقد كنّا نختبئ من عيون الأمن.”. تلك اللحظة بقيت محفورة في قلب فريج، مثل ضوءٍ نجا من العتمة ،كان معبد سورياً وفقط. قاصّاً، روائياً، ومؤرخاً لذاكرة الألم. كتب عن سجنه، عن الثورة، وعن تلك السنوات التي عبرت فيها الرقة من النور إلى الظلمة، حين اختطفها الغلاة وطمسوا ملامحها الحقيقية. قاومهم كما يُقاوم النبلاء: بالكلمة، وبالحضور الصامت، الذي يترك أثراً لا يُمحى.
وتنهي فريج حديثها قائلةً: “أتمنى ألا يُختزل وجه الرقة، كما أرادوا لها دائماً، في العشيرة أو الفكر البدائي. أتمنى أن يبقى اسم معبد، واسم أبيه، وكل أولئك الذين أناروا هذه المدينة ذات زمن، حيّاً في ذاكرتنا. لأن الرقة لا يجب أن تموت… لا مرة، ولا ألف مرة. السلام لروحك يا معبد، أيها الصديق النبيل جداً، لم تكن شخصاً فقط… كنت حكاية ثورة في قلب الفرات”.
حين يصير الدم ماء
“يُعد الكاتب الراحل معبد الحسون، واحداً من المؤلفين الذين قدموا إضافة نوعية لمدونة أدب السجون العربية، عبر كتابه المهم / الرواية: “قبل حلول الظلام: حين يصير الدم ماء”، وبصورة خاصة في المتن الإبداعي السوري لأدب السجون، بما قدمه الحسون، في هذا الكتاب، من صور وحكايات تكشف جوانب مخفية، او مسكوت عنها، لأحداث وشخصيات حقيقية، تقبع خلف الأسوار، في معتقلات النظام الأسدي الديكتاتوري الزائل” هكذا يختار أن يبدأ الباحث والشاعر والروائي السوري عبد الرحمن مطر حديثه لصحيفة “الثورة”. والرواية التي حاول الحسون أن يجعل منها سيرة شخصية لمعتقل داخل السجن، أي حكايته هو، إنما كانت هي سيرة المعتقلين الذين جاورهم واختلط بهم، وعاش معهم، وتشارك معه المعاناة المريرة التي كانوا عليها طوال سنوات السجن الطويلة ، كما يعبر الحسون على حد تعبيرات مطر؛ويكمل”في جميع كتاباته، لم يكن معبد الحسون إلاّ صوت الآخرين الذين رأى فيهم حكاية الوطن المُتعب والمستلب، وكان المعبّر الصادق عن معاناة شعب بأكمله. لم تكن التهويمات والأحلام، جزءاً من سردياته، بل العكس من ذلك. فإنه كان يمعن في سبر أغوار النفس البشرية التي أنهكها الاستبداد وطوّقها. وكانت المباشرة، وسيلة السرد البسيطة التي أراد أن يفكك بها تعقيدات الواقع المر، حتى في الحكايات التي بنى لها أمكنة وأحداث متخيلة كما في روايته الحرب”.
يقول مطر موضحاُ: “رواية الحقيقة، كما رأيت، عند معبد الحسون كانت همّاً أساسياً، من انشغالاته في الكتابة، ولو كانت على حساب القيمة الإبداعية التي تُبنى عادة على السرد المتخيل. وفي اعتقادي بأن الحسون كان يمعن في هذا الأسلوب، لكي يضع شهادته ككاتب ومناضل وثائر ، في زمن حُكمت فيه البلاد بالحديد والنار، ومن ثم اختطاف الثورة التي كانت حلم الملايين بالحرية والخلاص وهذا ما أنتجه في كتابه المهم جداً” الرقة والثورة” الذي يسد ثغرة في المعرفة العامة، وفي المعلومات الغنية التي قدمها، فيما يتصل بالثورة السورية، وفي الرقة التي كانت مغيّبة، عن مسارات الإعلام والمتابعة الوطنية.” وينهي مطر حديثه مودعاً الراحل معبد الحسون، “المثقف، المثقف الثائر “بكل ما تعنيه العبارة من معنى، كان هو التجسيد الحقيقي للمثقف الذي ارتبطت أفكاره بالعمل الثوري، على الأرض، بعيداً عن التنظير والتعالي، الإنسان المبدع النبيل الذي ينتمي الى عائلة رفيعة الثقافة والأدب، رفيعة في النضال ضد الاستبداد، رفيعة في عطائها الإبداعي: الشاعر مصطفى الحسون، القاص والمترجم معن الحسون، رحيل معبد الحسون، خسارة ثقافية كبيرة، وموجعة”.