الثورة – مريم إبراهيم:
رجال ونساء، وحتى أطفال بعمر الزهور يتصدرون المشهد اليومي الذي ترصده العين.. شاءت ذلك أم أبت، في الشوارع، وعلى جانبي الطرق، ومركز الانطلاق هو الأفران.. حكومية وخاصة، في مختلف المناطق والأحياء، من الصباح وحتى المساء، التوقيت والزمان خارج الاعتبارات، فالهدف بيع أكبر عدد من ربطات الخبز، مع كل ما يرافق هذه المهمة الشاقة اليومية من تفاصيل دقيقة وأحداث وقصص شتى تعلق في ذاكرة كل من هم في صلب المهمة، أو على تماس مع القائمين بالعمل.
بين الحاجة والدخل
بشكل عام محاولات ضبط بيع الخبز وتنظيم حالة التوزيع ما زالت تشهد الفوضى والعديد من الأفران في مختلف المحافظات لا تلتزم بأي تعليمات وقرارات الجهات المعنية الناظمة لهذا الموضوع، ومع غياب الرقابة والمتابعة تزداد مخالفات الأفران، سواء بالكميات أم نوعية وجودة الرغيف، ومشهد الأفران والازدحام اليومي أمامها هو بحد ذاته يتحدث عن واقع الأمر من دون الحاجة للسؤال والاستفسار.
ومن ذلك تتفاقم ظاهرة بيع الخبز في مختلف الأماكن، وبأسعار مضاعفة، فالربطة التي سعرها من الفرن أربعة آلاف ليرة تباع من قبل بائعي الخبز بثمانية آلاف ليرة، هذا عدا عن استغلال الحاجة وزيادة أسعارها أكثر في فترات المساء والظروف المناخية القاسية، لتتحول من مجرد حاجة مادية ودخل إضافي يساعد المحتاجين المستحقين، إلى ظاهرة متفاقمة لمزيد من الدخل والربح اليومي للكثيرين سواء ممن هم بحاجة حقيقية ومنهم ليسوا كذلك، وذلك عبر مجموعات وأفراد، يتقاسمون الأدوار، فمنهم من يؤمن الخبز ومنهم من يوزع، ومنهم من يقوم بالبيع كشراكة جماعية لربح أكبر.
مشهد وحديث
وما يلفت النظر حين الحديث في هذا الأمر، هو زج الأطفال وبكثرة واستغلالهم في بيع الخبز من دون الأخذ بعين الاعتبار منعكساته السلبية لاحقاً، والغريب أن بعض الأسر تتعمد إرسال الأطفال لبيع الخبز غير عابئين بسلبيات الأمر وعواقبه لاحقاً، خاصة وأن هؤلاء الأطفال في مراحل التعليم الأولى، ما يعني تسرباً مدرسياً وإشغال الأطفال وتوجههم لتحصيل الدخل المادي عوضاً عن التعليمي، لمجرد الكسب المادي الذي يعتبرونه ضرورة وحاجة ماسة في ظل الظروف المعيشية الصعبة.
الطفلة جنى وأختها تبدوان بمنتهى السعادة، وهما يحصيان مبلغ النقود التي بحوزتهما من بيع الخبز، ولا يشعران بالوقت حسب حديثهما، حتى مع عدد الساعات التي تستغرقها عمليات بيع الخبز، ورغبة لبيع أكثر، هذا إضافة لمبالغ إضافية في بعض الأحيان، تكون من بعض الميسورين مادياً ممن يشترون الخبز منهما، مع حالة من الفخر أن يومية بيع الخبز لكل واحدة تتجاوز الثلاثين ألفاً لساعات قليلة.
بالمقابل تشرح إحدى بائعات الخبز معاناتها في ما تعانيه من بيع الخبز، وتبدو المهمة يومية وشاقة ومتعبة للغاية، فهي مضطرة لذلك، كونها تعيل أسرتها بعد وفاة زوجها، إذ إن بيع الخبز المصدر الوحيد للدخل المادي لتربية أطفالها، وسد رمق الحاجة ما أمكن ذلك.
خبراء
في هذا الموضوع تبين الخبيرة الاقتصادية راما حسين في حديثها لصحيفة الثورة، أنه بعد أربع عشرة سنة من الحرب التي عصفت ببلدنا، وما خلّفته من آثار اجتماعية واقتصادية عميقة، بدأت تبرز إلى السطح ظواهر جديدة، من أبرزها عمالة الأطفال، نشهد اليوم أطفالاً في سن الدراسة يعملون في مهن متعددة، أبرزها بيع الخبز في الشوارع والأسواق، وذلك نتيجة الضغوط المعيشية التي دفعت العديد من الأسر إلى الاعتماد على أطفالها كمصدر دخل إضافي، لكن من المهم عند الحديث عن هذه الظاهرة أن نُميّز بين حالتين، الأولى أطفال يعملون بدافع مساعدة أسرهم بسبب الفقر، وتحت إشراف الأهل، وأطفال يتم استغلالهم من قبل شبكات منظمة تستفيد من ضعف الرقابة وحاجة الأسر لتشغيل الأطفال قسراً، ضمن ظروف عمل قاسية ومهينة.
شبكات استغلال الأطفال
وتوضح الخبيرة حسين أن واجبنا الأخلاقي والوطني يحتم علينا محاربة الشبكات التي تستغل الأطفال، فهذه الظاهرة لا تُهدد حاضر الطفل فحسب، بل تُقوّض مستقبل المجتمع بأكمله، ويجب على الجهات المعنية، وخصوصاً وزارات الشؤون الاجتماعية والعمل، والداخلية، والعدل، والتربية، العمل بتناغم لرصد هذه الشبكات وتفكيكها، وإيقاع العقوبات اللازمة بحق من يقف خلفها.
وتؤكد ضرورة تنظيم مهنة بيع الخبز بكرامة، إذ إنها على الرغم من بساطتها، يمكن أن تتحول إلى مهنة كريمة ومنظمة إذا ما تم تأطيرها قانونياً، سواء أُسندت للكبار أم اضطر إليها الصغار بفعل الحاجة، ويمكننا تحويلها إلى فرصة تحفظ الكرامة وتحقق دخلاً مادياً شريفاً للعاملين بها، من خلال تنظيم المهنة ضمن جمعيات مختصة أو مراكز نقاط بيع مرخّصة ضمن هذا المجال، كإصدار بطاقات عمل مؤقتة للأطفال الذين يضطرون للعمل، تراعي أوقات دوامهم المدرسي، مع أهمية العمل على توفير تأمين صحي بسيط، وإشراف ومراقبة مستمرة من قبل البلديات والوزارات المختصة، وإطلاق حملات توعية موجهة
من المدارس والمجتمع المحلي، ودعم الأسر بدلاً من اضطرار الطفل للعمل في ظروف سيئة، بدلاً من ترك الطفل يتحمل أعباء الحياة في سن مبكرة، إذ يجب أن يُعاد توجيه الدعم نحو الأسر عبر توفير بطاقة معيشية أو دعم مباشر للأسرة.تشجيع الجمعيات المحلية والدولية على إنشاء برامج لدعم الأسرة المنتجة، وتعزيز دور المدارس كحاضنة تربوية واجتماعية، ترصد حالات التسرب والعمالة.
نحو اقتصاد اجتماعي منظم
وتبين الخبيرة حسين أنه بدلاً من تجاهل الواقع أو محاولة إلغائه قسراً، علينا إدماج هذه المهن البسيطة ضمن اقتصاد اجتماعي منظم، يحمي العاملين ويوفر لهم الحد الأدنى من الأمان الاجتماعي، كما يجب إحداث جمعيات متخصصة برعاية الطفل والمرأة، تتكامل مع جهود الدولة وتسدّ الفجوات في الرعاية والدعم، ففي ظل الظروف الصعبة التي نمر بها، لا يمكننا إلغاء ظاهرة عمالة الأطفال بقرار إداري فقط، لكن يمكننا تنظيمها، وحماية الأطفال من الاستغلال، ودعم الأسر بما يحفظ كرامتهم ويضمن لأطفالهم مستقبلاً أفضل.
بالعموم مع الحاجة اليومية للخبز كمادة رئيسة في وجبات الطعام والاستهلاك اليومي هناك واقع مازال موجوداً، وهو الازدحام والفوضى عند الأفران خاصة الحكومية، والأفران التي تنتج الخبز بنوعية جيدة، ويساهم في المشكلة وصعوبات أكثر باعة الخبز الذين يحصلون على الكميات الكبيرة وبشكل يومي من الأفران، وذلك على حساب حاجة الآخرين وانتظارهم ساعات طويلة للحصول على حاجتهم، ما يطرح أهمية تشديد الرقابة والجولات على جميع الأفران وضبط المخالفات والتجاوزات، سواء بالنوعية والجودة والوزن وغير ذلك من مخالفات.