زلزال دبلوماسي.. سوريا نحو نظام إقليمي جديد

الثورة- نور جوخدار:
بعد لقاء الرئيس أحمد الشرع مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب في العاصمة واشنطن، تحولات كبيرة تشهدها الساحة السياسة في الشرق الأوسط، وصفتها الأوساط الدبلوماسية “بزلزال سياسي” يعيد رسم ملامح النظام الإقليمي.

فالزيارة لم تكن مجرد حدث بروتوكولي، بل حملت دلالات عميقة على الثقل الدبلوماسي الذي بات يمثله الشرع، خصوصاً أنه سبق في زيارته عدداً من القادة العرب الحلفاء لواشنطن، الذين لم يتح لهم فرصة زيارة “البيت الأبيض” منذ تولي ترامب ولايته الثانية في يناير/كانون الثاني الماضي.

إعطاء الأولوية لـ”إدارة الأزمات”

الملف السوري بات يشكل الأولوية الكبرى على طاولة المكتب البيضاوي، الأمر الذي يضفي أهمية كبيرة لزيارة الرئيس أحمد الشرع إلى واشنطن، كما تمثل لحظة حاسمة في العلاقات السورية الأميركية، حملت معها أجندة اقتصادية وجيوسياسية معقدة تهدف إلى تعزيز التعاون في مكافحة الإرهاب، وتخفيف العقوبات الاقتصادية، والتنسيق الأمني في مناطق الشمال الشرقي.

تعد سوريا دولة محورية في الشرق الأوسط، ليس فقط بحكم موقعها الجغرافي، بل بتاريخها السياسي والاقتصادي والثقافي، ما جعلها لاعباً رئيسياً في التوازنات الإقليمية والدولية، لذلك تدرك واشنطن أن وجود تنظيمات إرهابية مثل “داعش” في المنطقة يمثل تهديداً مباشراً لأمنها القومي، فهي تعتبر وجود قواتها في سوريا يساعد في مكافحة الإرهاب ومنع ظهور تنظيمات متطرفة جديدة.

فالقرارات الأميركية التي تلت اللقاء لم تقتصر على سوريا فقط، بل هو جزء من إعادة ترتيب شاملة لأولويات واشنطن في الشرق الأوسط، تقوم على مبدأ “إدارة الأزمات”، يبدو الهدف هو تأسيس نظام إقليمي جديد تكون فيه سوريا دولة مستقلة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً بشكل تام، ما يفتح الباب لعدة تساؤلات: ما هو مستقبل الشمال الشرقي السوري، ودور البعثة الدبلوماسية في واشنطن؟ وكيف ستنعكس المرحلة المقبلة على مصير اللاجئين السوريين؟

دمج سوريا كشريك إقليمي فاعل

في هذ السياق، أكد نائب رئيس مجلس “النهضة السوري”، أمجد إسماعيل الأغا، أن القرارات الأميركية الأخيرة بعد اللقاء تتسم بامتزاج دقيق بين الرغبة في إعادة رسم ملامح النظام الإقليمي في الشرق الأوسط من جهة، ومحاولة ضبط إيقاع الأزمات السائدة عبر آليات إدارة مدروسة من جهة أخرى.

وأضاف الآغا في حديثه لصحيفة الثورة، إن هذه القرارات ليست وليدة حالة عابرة، بل جاءت نتيجة تراكم استراتيجي يعكس إدراكاً متزايداً في واشنطن بأن المواجهة المباشرة لم تعد مجدية، وأن السبيل الأمثل يكمن في بناء تحالفات وأطر إقليمية جديدة تُعزز الاستقرار النسبي وتقلص الانزلاقات نحو فوضى مفتوحة.

اللقاء بين الشرع ودوائر صنع القرار في واشنطن، وفق تحليل الآغا، يشكل نقطة فاصلة تعكس نيّة أميركية لإعادة ضبط أدوار اللاعبين الإقليميين، ودمج سوريا كشريك إقليمي “محدود لكن فاعل”.

تحوّل دونالد ترامب إلى استراتيجية تبريد الصراعات بدلًا من الانخراط المباشر في المواجهات، يشير إلى أن الإدارة الأميركية تسعى إلى “إدارة الأزمات”، عبر تفعيل قنوات دبلوماسية وتوسيع إطار التحالفات التي تشمل أطرافاً إقليمية ودولية مختلفة.

وحول سعي واشنطن لـ “إدارة الأزمات” بدلًا من خوضها، بيّن الآغا، أنه من الواضح أن واشنطن لم تعد مهتمة بإعادة ترتيب سوريا عبر القوة العسكرية أو الضغوط القصوى وحدها، إذ تعكس القرارات الجديدة توجهاً نحو تقليل الخسائر والسيطرة الحذرة على المتغيرات ضمن عناوين الحدث السوري عبر آلية إدارة الأزمات.

فبالنسبة لسوريا، عملياتياً يعني تقليص الدعم لمجموعات مسلحة غير موحدة، توازياً مع تعزيز دعم القوى المحورية التي تقبل بوجود نفوذ أميركي، إضافة إلى العمل على استقرار المناطق تدريجياً تحديداً تلك المناطق التي تشهد فوضى أمنية، وذلك من خلال تحالفات دولية خاصة مع الدول الغربية والدول الإقليمية.

تحالفات مشروطة ونظام إقليمي جديد

التحالفات الدولية، خاصة تلك التي تتضمن الدول الغربية والإقليمية، تأتي كآلية أساسية لإدارة هذه المرحلة الانتقالية التي لا يمكن لأي طرف أن يهيمن عليها منفرداً، وأن هذه الشراكات الدولية هدفها المزدوج هو تمهيد الظروف للتسوية السياسية عبر احتواء المتغيرات الأقل استقراراً، وخلق أرضية تمكّن من فرض قواعد اشتباك مقبولة، ما يشكل عتبة ضرورية لإعادة ترتيب الحضور السياسي للنظام السوري.
وتابع الأغا، إن الملف الأكثر تعقيداً هو عودة سوريا إلى الحلبة السياسية الإقليمية والدولية، التي ترافقها ضوابط أميركية تظل ظاهرة في المواقف الرسمية، لكنها في الواقع مؤشر على فتح قنوات حوار ومفاوضات تشكل أساساً لمفاوضات لاحقة.

هذا الاستجداء يعكس تحولاً حقيقياً في فهم واشنطن لطبيعة الحكومة السورية كفاعل سياسي يمكنها المساعدة في ضبط المشهد السوري وبهذا لا يمكن تجاهله، وثمة خطوة نحو تقبل وجود النظام الجديد في إطار يتيح فرض بعض معايير السلوك والتقيد بالالتزامات، وهو ما يفتح الباب أمام مفاوضات أعمق حول مرحلة سياسية جديدة تكرس معه ديناميات تفيد استقراراً نسبياً في بعض المناطق، رغم التحديات المستمرة.

الدور السوري الجديد

فيما يتعلق بملامح “الدور السوري” المتوقع في المرحلة المقبلة، خاصة بعد عودة الاتصالات الدبلوماسية مع واشنطن والعواصم الغربية، يعتقد الآغا، أن استئناف الاتصالات الدبلوماسية بين دمشق وواشنطن وعدد من العواصم الغربية يعكس تحوّلاً مهماً في النظرة إلى الدور السوري، إذ لا تقتصر علاقة سوريا على كونها لاعباً داخلياً، بل تمتد لتكون فاعلاً إقليمياً له أبعاد متعددة تتماشى مع المصالح الكبرى، خصوصاً الأميركية وحلفائها.

ففي البُعد الأول، تظهر سوريا كجسر وساطة بين القوى الكبرى، إذ تسعى واشنطن إلى استخدام دمشق كمنصة لإدارة التوازنات الإقليمية، وبناء تسويات استراتيجية تقلل من المخاطر وتدعم الاستقرار وفق مصالحها، ما يفرض على سوريا دوراً يستدعي منها مسايرة هذه المصالح وتوازنها بحذر.

أما في البُعد الاقتصادي، فإن استعادة العلاقات مع دول الجوار تمنح سوريا إمكانية لإعادة رسم خارطة اقتصادية تتعلق بقطاعات حيوية مثل الطاقة والنقل، وهما مجالان جوهريان للمنطقة، وتستلزم هذه العلاقات وجود تفاهمات دولية تسمح بتدفق الاستثمارات والمساعدات التنموية ضمن إطار تنسيق إقليمي ودولي.
هذا المنحى يتيح لسوريا فرصة استعادة جزء من قدرتها الاقتصادية عبر إشراكها في مشروعات إقليمية تسهم في إعادة بناء البنى التحتية وتفعيل الدور التجاري بين الدول.

على المستوى السياسي والأمني، تمثل سوريا وفق واقعها الجديد نقطة ارتكاز لتعزيز الاستقرار عبر سلسلة من الاتفاقات الضمنية التي تسعى للحد من الصراعات المفتوحة، وتمنح فسحة للسير نحو تقليص الاحتكاكات ضمن مناطق النفوذ المختلفة.
هذه الاتفاقات لا تكون رسمية بالضرورة، لكنها تعكس تفاهمات داخلية وخارجية تهدف إلى توفير مناخ سياسي يسمح باستقرار نسبي ويقلل من احتمالات التصعيد، وهذا بدوره يفتح الطريق أمام نقاشات أكثر عمقاً حول مستقبل الحل السياسي وانتقال السلطة.

هذه المرحلة تمثل تقدماً ملموساً قد يمنح سوريا هامشاً أوسع نسبياً مما كان عليه في السابق، ما يسمح لها بإعادة تموضع استراتيجي متأنٍ يراعي التوازنات الدولية والإقليمية دون تهديد تام لسيادتها.

وحول مسألة الشمال الشرقي السوري، أكد الكاتب والباحث السياسي، أنها تمثل بالفعل نقطة توتر إقليمية معقدة، إذ تتقاطع مصالح عدة أطراف ضمن منطقة تعدّ مركزاً للصراعات الإقليمية والدولية.

التصادم بين الولايات المتحدة وتركيا ينتج عن اختلاف في الرؤى الإستراتيجية الأمنية، فالولايات المتحدة تدعم “قسد” وتعتبرها شريكة استراتيجية في مكافحة الإرهاب، بينما تركيا ترى في “قوات سوريا الديمقراطية” تهديداً لأمنها القومي وتصرّ على منع أي تشكيل كردي مستقل أو مسلح على حدودها الجنوبية.

روسيا، بدورها، تسعى للموازنة بين هذين الطرفين وتحقيق موقعها كوسيط قادر على التحكم في ديناميات النزاع، لكن غياب الثقة المتبادلة يعمّق من الأزمة، فالكل يخشى من استغلال الطرف الآخر لأي تنازل أو ضعف، خاصة مع ارتباط المصير السياسي للمنطقة بالوجود العسكري الأجنبي والتدخلات التي تنال من الشرعية الوطنية، وهذا يجعل أي محاولة للتفاهم تتطلب بناء قنوات اتصال موثوقة يصعب تحقيقها في ظل التوتر المستمر.

بالإضافة إلى ذلك، التدخلات الإقليمية والدولية المسبقة، سواء عبر دعم ميليشيات معينة أو فرض حظر جوي أو إجراء ضربات عسكرية، تعقّد المشهد وتقلل من إمكانية التسوية السريعة.

الاستقرار الأمني بوابة عودة اللاجئين

زيارة الشرع إلى واشنطن وتوقيع الاتفاق يشكلان إلى حد ما علامة فارقة في مسار سوريا نحو إعادة ترميم مكانتها في المجتمع الدولي، إذ تعكس هذه الخطوة توجهاً جديداً يهدف إلى إعادة دمج سوريا في نظام العلاقات الدولية بطرق أكثر انسيابية من ذي قبل، ومن أهم ما يحمله هذا الاتفاق هو توفير إشارات واضحة نحو خلق بيئة سياسية وأمنية مستقرة، تُعدّ ضرورية لجذب اللاجئين للعودة، إذ إن الاستقرار السياسي والأمني هو الشرط الأساسي والتفصيلي لإعادة بناء المجتمعات المحلية والمحافظة على النسيج الاجتماعي.

ويمكن وصف الاتفاق بأنه إطار أولي تمهيدي يحمل بين طياته إمكانية التحول إلى بداية فعلية لإعادة اللاجئين، إذا ما تزامن مع إرادة دولية حقيقية قادرة على تحويل الكلمات إلى أفعال ملموسة، وبتوافق داخلي يسمح بتثبيت المقومات الأمنية والسياسية التي تخلق المناخ الملائم للعودة والاستقرار.

أما فيما يخص الانقسام الدولي في التعامل مع ملف اللاجئين السوريين، قال الآغا، أن هذا ينعكس بوضوح على قدرة المجتمع الدولي على تقديم استجابة فعالة وشاملة، ما يخلق حالة من التوتر بين النوايا الإنسانية والمواقف السياسية، وهناك دول ومنظمات تركز على الجانب الإنساني، وترى في دعم اللاجئين وعودتهم السريعة عملاً أخلاقياً وضرورة لإعادة بناء حياة الناس المتضررة، وتقدم مبادرات تسعى لإعادة تأهيل البنى التحتية الأساسية وتوفير الحماية القانونية والاجتماعية لهم، هذه الجهات تدعو إلى حلول مستدامة تُراعي الحقوق الأساسية للإنسان بعيداً عن المساومات السياسية.

وأضاف إنه على الجانب الآخر، هناك دول تستخدم ملف اللاجئين كورقة في صراعات النفوذ الإقليمي والدولي، إذ يستغل البعض هذا الملف للضغط على الحكومة السورية أو لدعم أجنداتهم الجيوسياسية، ما يحول دون تحقيق تقدم فعلي في الملف.

هذا التوظيف السياسي يعرقل جهود التنسيق الدولي، وينتج عنه تشرذم في المساعدات وتعقيدات في إدارة البرامج، ويؤدي إلى تجميد الملفات أو تحويلها إلى أدوات شرطية وابتزازية.

وعليه، فإن التوافق السياسي الإقليمي والدولي يشكل ركيزة أخرى لا غنى عنها، لأنه يمنع تجدد الصراعات ويساعد على خلق مناخ من الثقة والتعاون بين الأطراف المعنية، بما يسمح باتخاذ خطوات عملية على الأرض.

هذه التحولات هي بداية مرحلة جديدة، ويجب على الأطراف المتورطة التكيف مع متغيرات الواقع، وإيجاد أرضية للتوافق والانسجام تضمن تقدماً منسجماً في الملف السوري.

آخر الأخبار
دمج الأطفال بأنشطة حسية ولغوية مشتركة تعزز ثقتهم بأنفسهم     إغلاق مصفاة حمص وتحويل الموقع لمستشفيات ومدارس        لبنان في مرمى العزلة الكاملة.. "حزب الله" يسعى وراء مغامرة وسوريا ستتأثر بالأزمة    وزير الطاقة: تخفيض أسعار المشتقات النفطية لتخفيف الأعباء وتوازن الاستهلاك     الرئيس الشرع: الإدارة الأميركية تتفق مع هذه الرؤية   "مجلس الشيوخ" الأميركي يقرّ اتفاقاً لإنهاء أطول إغلاق حكومي في تاريخ البلاد  درعا تعيد صوت الجرس إلى ثلاث مدارس   أميركا تخطط لبناء قاعدة عسكرية ضخمة قرب غزة بقيمة 500 مليون دولار  وسط صمت دولي.. إسرائيل تواصل انتهاكاتها داخل الأراضي السورية بهذه الطريقة  تعاون مرتقب بين "صناعة دمشق" ومنظمة المعونة الفنلندية  "التربية والتعليم" تعزز حضورها الميداني باجتماع موسع في إدلب 80 فناناً وفنانة في مبادرة "السلم الأهلي لأجل وطن"  خسائر بأكثر من سبعة ملايين دولار بسبب فساد في القطاع العام     ترامب يحذر الشرع من إسرائيل:  هل بقيت العقبة الوحيدة أمام سوريا؟   تنفيذ طرق في ريف حلب ب 7 مليارات ليرة  الكهرباء تكتب فصلاً جديداً في ريف دمشق.. واقع يتحسن وآمال تكبر السكك الحديدية السورية.. شريان التنمية في مرحلة الإعمار  بمشاركة سوريّة.. الملك سلمان يتحدث في مؤتمر "من مكة إلى العالم" جودة الخبز ورفع الجاهزية على طاولة التجارة الداخلية  "مهرجان تسوّق حلب".. عودة الألق لسوق الإنتاج الصناعي والزراعي