التيار الذي أعاد الثقة.. حلب تضيء من جديد

الثورة – جهاد اصطيف:

بعد أكثر من عقد من الظلام المتقطع والليالي الطويلة التي غابت عنها الإنارة، تشرق اليوم مدينة حلب على مشهد مختلف تماماً، فالتيار الكهربائي عاد ليتدفق في شرايينها بوتيرة لم تعرفها منذ عام 2011، حتى وصلت ساعات التغذية في معظم أحيائها إلى ما يقارب العشرين ساعة يومياً.

لم يكن هذا التحسن مجرد خبر خدمي عابر، بل بدا كأنه بداية فصل جديد في قصة المدينة التي عانت الحرب والدمار، وها هي تستعيد ببطء أنفاسها وإيقاعها القديم، فعودة الكهرباء لم تعنِ إنارة الشوارع فحسب، بل أضاءت زاوية الثقة المطفأة في نفوس الحلبيين، لتعلن أن الحياة قادرة على النهوض مهما طال ليلها.

من العتمة إلى الضوء

كانت حلب قبل الحرب قلب الصناعة السورية، ومركزاً حيوياً يعج بالحركة والإنتاج، يعتمد على شبكة كهربائية متينة تغذي معاملها وأسواقها، ومع اندلاع المعارك، تعرضت محطات التوليد وخطوط النقل لأضرار جسيمة، ما أدى إلى انهيار شبه كامل للمنظومة الكهربائية.

سنوات طويلة مرت على السكان وهم يعيشون على وقع أصوات المولدات وضجيجها، يشترون الكهرباء بالساعة بأسعار أثقلت كاهلهم، فيما لم تكن الكهرباء النظامية تزور منازلهم إلا لساعات قليلة، لا تكفي حتى لغلي فنجان قهوة على عجل.

لكن مع تحسن الأوضاع الأمنية وعودة الورش الفنية إلى العمل، بدأت رحلة شاقة من إعادة الإعمار الكهربائي، ورشات الصيانة وصلت إلى محطات ومحولات كانت خارج الخدمة منذ سنوات، لتبدأ عملية التأهيل الشامل وإعادة الربط مع الشبكة الوطنية.

الشركة لا تعقيب…!

كنا نأمل أن نتحصل على تعقيب واضح من الشركة العامة لكهرباء محافظة حلب، أمام هذا التحسن الملحوظ، رغم تواصلنا لأكثر من مرة مع المكتب الإعلامي، إلا أن محاولاتنا للأسف لم تنجح حتى هذه اللحظة.

مع ذلك يمكننا القول: إن ما يعيشه الناس اليوم يتجاوز الجانب الفني بكثير، ففي حي الحمدانية، يقول الشاب يامن جابر: بعد سنوات من العتمة، باتت الشوارع تضيء حتى وقت متأخر من الليل، وكأن المدينة تنفض عن كتفيها غبار الحرب لتتنفس من جديد.

الأنوار أعادت الأمان إلى الأحياء، المتاجر فتحت أبوابها حتى ساعات متأخرة، وصوت المولدات الذي كان لا يفارقنا بدأ يتلاشى شيئاً فشيئاً.

أما في حي صلاح الدين، فتحدثت المعلمة قطفة عبد الغفور عن التغيير في تفاصيل الحياة اليومية: كنا نظن أن أولادنا لن يدرسوا مجدداً على ضوء المصباح النظامي، الكهرباء المنتظمة لم تخفف الفواتير فقط، بل أزالت التوتر عن العائلات وأعادت الطمأنينة إلى البيوت.

نبض الصناعة يعودفي الورش والمعامل الصغيرة، كان التحسن الكهربائي بمثابة بارقة أمل طال انتظارها.يقول صطاف أحمد، صاحب ورشة خياطة: كنا نعتمد على المولدات بأسعار لا تحتمل، أما الآن فالتيار النظامي أعاد لنا القدرة على العمل لساعات أطول وتكاليف أقل، وهذا يعني إنتاجاً أكثر وفرص عمل جديدة.

عدد من الصناعيين أكدوا أن استقرار الكهرباء يشجع المستثمرين المحليين على إعادة تشغيل معاملهم، ما ينعكس مباشرة على الأسواق وحركة النقل والتجارة والخدمات المرتبطة بالإنتاج، ويرى بعضهم أن استمرار التحسن بالوتيرة نفسها لعام واحد فقط قد يؤدي إلى مضاعفة حجم الإنتاج في المنشآت الصغيرة والمتوسطة، إذا ترافق مع دعم حكومي للطاقة التشغيلية.

يصف الدكتور خالد اصطيفي، أستاذ جامعي، عودة الكهرباء بأنها رمز لعودة الدولة الفاعلة، فالإنارة في الشوارع ليست مجرد ضوء، بل رسالة بأن الإدارة الوطنية استعادت حضورها، وأن العلاقة بين المواطن والمؤسسة العامة يمكن أن تعود إلى مسار الثقة والتعاون، مضيفاً: إن التحول في المزاج الشعبي بات واضحاً في إشارة إلى أن التعافي الحقيقي يبدأ من داخل المجتمع ومن الإيمان الجماعي بإمكانية النهوض.

مقترحات لتثبيت التحسن

خلال لقاءات أجرتها صحيفة الثورة مع عدد من الأهالي والصناعيين، برزت مجموعة من المقترحات لتثبيت هذا التحسن وتحويله إلى مسار مستدام.

من أبرز هذه المقترحات، تشكيل فرق صيانة سريعة التدخل لمعالجة الأعطال من دون تأخير، وإشراك المجتمع المحلي في مراقبة الأداء عبر مجالس استشارية للأحياء، و التوسع في استخدام الطاقة المتجددة في المدارس والمراكز الصحية لتخفيف الضغط عن الشبكة، و تقديم تسهيلات ودعم للصناعيين الذين يعيدون تشغيل منشآتهم، سواء عبر الإعفاءات المؤقتة أو خفض أسعار الكهرباء الإنتاجية.

ويرى الدكتور اصطيفي أن تنفيذ هذه الأفكار ضمن خطة وطنية متكاملة، يمكن أن يجعل من التجربة الحالية نقطة انطلاق نحو نهضة خدمية واقتصادية شاملة.

الاتجاه العام مشجع

وعلى الرغم من كل هذا التقدم، لا تزال الشبكة الكهربائية في حلب بحاجة إلى استثمارات ضخمة لإعادة تأهيلها بالكامل، وخصوصاً في المناطق الشرقية التي تضررت بشدة خلال الحرب، كما تبقى مسألة تأمين الوقود والتجهيزات الحديثة تحدّياً دائماً أمام قطاع الكهرباء.

لكن المراقبين يرون أن الاتجاه العام مشجع، وأن ما تحقق في حلب يمكن أن يشكل نموذجاً وطنياً يحتذى به، إذا ما تم البناء عليه بخطط مدروسة ومتابعة ميدانية مستمرة.من هنا، علق محافظ حلب المهندس عزام الغريب في منشور له – كما عودنا في كل مرة – واليوم بخصوص تحسن التيار الكهربائي قائلاً: نحن اليوم أمام تحسن تدريجي في عدد ساعات التزويد الكهربائي، نتيجة لصيانة محطات وتأهيل الشبكة، ونعمل على توسيع الاستقرار في هذا القطاع قدر المستطاع.

وأضاف: من المهم أن نوضح أن الزيادة الحالية في ساعات الكهرباء ليست مرتبطة بزيادة التعرفة أو أنها زيادة دائمة، إنما ناتجة عن انخفاض الأحمال والاستهلاك، وخاصة مع اعتدال الطقس والصيانات المستمرة، وهو ما يساعد الشبكة على الاستجابة بشكل أفضل، مجدداً الدعوة للترشيد في الاستخدام، وخاصة من خلال الاعتماد على المصابيح والأجهزة الموفرة للطاقة، لأن ضغط الاستهلاك هو أحد أبرز أسباب التقنين.

وعرّج في الوقت نفسه، بالحديث حول “ملف المحروقات”، مؤكداً أن وزارة الطاقة تعمل جاهدة على معالجة موضوع ارتفاع تكاليف التدفئة مع اقتراب فصل الشتاء، من خلال دراسة حلول لتوزيع أكثر عدالة وكفاءة، وقد نسمع بعض ” البشارات” في الأيام القادمة.

وخاطب المحافظ في نهاية منشوره أهالي حلب الكرام: نحن ملتزمون بالشفافية، وبمشاركتكم الصورة كما هي، ونأمل أن يكون القادم أفضل بالعمل المشترك والصبر والثقة.

الضوء الذي أعاد الأمل

أخيراً، في حي بني زيد جلس العم فاخر دبور أمام بيته يتأمل الأضواء التي تملأ الشوارع بعد غياب طويل، وقال بابتسامة يغلبها التأثر: كنا نقول قديماً من حلب تبدأ الإنارة، واليوم أقول: من حلب تعود الثقة.

كلماته تختصر المعنى العميق لما يجري، فعودة الكهرباء ليست مجرد خدمة، بل قصة وطنية عن الإرادة والقدرة على تجاوز المحن.

وإنارة المدينة هي في جوهرها إنارة للنفوس قبل الأبنية، ورسالة بأن البناء الحقيقي يبدأ من الإنسان، من إيمانه بقدرته على النهوض، ومن ثقته بأن المستقبل يمكن أن يكون أكثر إشراقاً.

وهكذا، بينما تتلألأ أضواء حلب في ليلها الطويل، تحمل معها بشائر طريق جديد عنوانه :”من حلب تبدأ الثقة من جديد”.

آخر الأخبار
دمج الأطفال بأنشطة حسية ولغوية مشتركة تعزز ثقتهم بأنفسهم     إغلاق مصفاة حمص وتحويل الموقع لمستشفيات ومدارس        لبنان في مرمى العزلة الكاملة.. "حزب الله" يسعى وراء مغامرة وسوريا ستتأثر بالأزمة    وزير الطاقة: تخفيض أسعار المشتقات النفطية لتخفيف الأعباء وتوازن الاستهلاك     الرئيس الشرع: الإدارة الأميركية تتفق مع هذه الرؤية   "مجلس الشيوخ" الأميركي يقرّ اتفاقاً لإنهاء أطول إغلاق حكومي في تاريخ البلاد  درعا تعيد صوت الجرس إلى ثلاث مدارس   أميركا تخطط لبناء قاعدة عسكرية ضخمة قرب غزة بقيمة 500 مليون دولار  وسط صمت دولي.. إسرائيل تواصل انتهاكاتها داخل الأراضي السورية بهذه الطريقة  تعاون مرتقب بين "صناعة دمشق" ومنظمة المعونة الفنلندية  "التربية والتعليم" تعزز حضورها الميداني باجتماع موسع في إدلب 80 فناناً وفنانة في مبادرة "السلم الأهلي لأجل وطن"  خسائر بأكثر من سبعة ملايين دولار بسبب فساد في القطاع العام     ترامب يحذر الشرع من إسرائيل:  هل بقيت العقبة الوحيدة أمام سوريا؟   تنفيذ طرق في ريف حلب ب 7 مليارات ليرة  الكهرباء تكتب فصلاً جديداً في ريف دمشق.. واقع يتحسن وآمال تكبر السكك الحديدية السورية.. شريان التنمية في مرحلة الإعمار  بمشاركة سوريّة.. الملك سلمان يتحدث في مؤتمر "من مكة إلى العالم" جودة الخبز ورفع الجاهزية على طاولة التجارة الداخلية  "مهرجان تسوّق حلب".. عودة الألق لسوق الإنتاج الصناعي والزراعي