مالية دمشق تحت المجهر.. شبكة فساد أم حملة تطهير؟

الثورة ـ لينا شلهوب:

في الرابع من تشرين الثاني الحالي، اهتزّت العاصمة دمشق على وقع خبر توقيف أكثر من 45 موظفاً وموظفة من مديرية مالية دمشق، بتهمة تقاضي رشاوى وتسهيل معاملات غير قانونية، التحقيقات التي نُفّذت بسرية تامة قادتها الجهات الأمنية، بالتعاون مع وحدة رقابية تابعة لوزارة المالية، بعد تنفيذ كمين تمويهي بمراجعين مزيفين، أفضى إلى ضبط مبالغ مالية ووثائق يُعتقد أنها تؤكد عمليات ابتزاز وتلاعب في معاملات المواطنين.

القضية التي تحوّلت إلى حديث الشارع والإعلام، ليست مجرد “حادث إداري”، بل مؤشر على عمق التحديات التي تواجه المؤسسات الحكومية في ملف الشفافية ومكافحة الفساد، خاصة في مفصل حساس كمديرية المالية، التي تمثّل شريان الدولة المالي، وأداة تنفيذ سياستها الضريبية والإيرادية.

تتجاوز حدود الموظف والرشوة

وفق المعلومات المتداولة، شمل التحقيق طرفي العملية: الموظفين المتلقين للرشاوى، والمراجعين الراشين، من مواطنين ومحامين ومعقبي معاملات، وتُظهر البيانات الأولية أن بعض الموظفين كانوا يسهّلون معاملات أو يخفّضون غرامات مالية مقابل مبالغ نقدية متفاوتة.

يقول أحد المحامين المهتمين بالقضية (طلب عدم ذكر اسمه): ما حدث ليس حالة فردية، بل جزء من منظومة متشابكة تشجّع على الفساد الإداري، تبدأ من ضعف الرقابة الداخلية وتنتهي بغياب المحاسبة الفعلية، مشيراً إلى أن توقيف هذا العدد الكبير يعد خطوة مهمة، لكنها لن تكون مجدية إن لم تُتبع بإصلاحات مؤسسية حقيقية، لافتاً إلى أن القانون السوري، وتحديداً المادة 342 من قانون العقوبات، ينص بوضوح على معاقبة كل موظف يلتمس أو يقبل منفعة مقابل عمل منافٍ لوظيفته، غير أن التطبيق العملي بقي في حالات كثيرة انتقائياً، ما أدى إلى تكرار ظاهرة “الرشاوى الصغيرة” في مؤسسات خدمية ومالية، تحت مبررات تسريع المعاملات.

بين الحزم الرسمي والقلق الشعبي

أعلنت مصادر قضائية أن جميع الموقوفين نقلوا إلى فرع التحقيق في عرنوس، ثم عرضوا على النيابة العامة التي باشرت الاستجوابات، فيما الجهات الرسمية شددت على أن القضية ستأخذ مجراها القضائي حتى النهاية دون استثناءات أو تسويات.

من جهة أخرى، سارعت منظمات معنية بالشفافية إلى الترحيب بالخطوة، لكنها طالبت بالكشف العلني عن نتائج التحقيق، وضمان حماية المبلغين، حيث تقول الناشطة الحقوقية رنا الزين لصحيفة الثورة: أن القضية فرصة لاختبار المصداقية في مكافحة الفساد، إذ بات الجميع يريد شفافية في الإجراءات، لا مجرد بيانات تطمين، مضيفة أنه من دون حماية المبلغين، وإصلاح بيئة العمل الإداري، سنعود إلى المربع الأول.

أما في الشارع الدمشقي، فتنوّعت ردود الفعل بين غضب وسخرية وقلق، عدد من مواقع التواصل الاجتماعي ضجّت بتعليقات تطالب بمحاكمات علنية وتطهير المؤسسات المالية، بينما عبّر آخرون عن خشيتهم من أن تكون القضية “كبش فداء” لتصفية داخلية أو صراع نفوذ.

تداعيات مباشرة

القضية تركت أثراً فورياً داخل مالية دمشق، فبحسب مصدر إداري، جرى تعليق بعض المعاملات مؤقتاً ريثما يُعاد توزيع الصلاحيات، وتم تكليف لجان طوارئ لضمان استمرارية الخدمات، حيث يضيف المصدر أنه حصلت حالة ارتباك في الأيام الأولى، لكن الوزارة أصدرت تعليمات لضبط الأداء، إلا أن المشكلة تبدو في غياب الثقة بين الموظف والمراجع والتي أصبحت واضحة، وهذا خطر على العلاقة بين المواطن والدولة.

الخبير في الشؤون القانونية نادر الطويل نوه بوجود جملة من التوجهات، فعلى المدى القصير، يتوقع أن تشهد المؤسسة موجة تغييرات إدارية، وإعادة نظر في آليات التدقيق الداخلي، إضافة إلى إجراءات تأديبية وفصل محتمل لعدد من الموظفين بعد صدور الأحكام، أما على المدى المتوسط، فقد تشكّل هذه القضية نقطة انطلاق لمراجعة شاملة لآليات الرقابة في وزارة المالية، من خلال تسجيل رقمي للمعاملات، وتوسيع دوائر التفتيش، وربما تعديل بعض اللوائح التنظيمية لضمان الشفافية.

بين العقوبة والإصلاح

كما يرى الخبير القانوني الطويل أن الفساد في المؤسسات المالية لا يقاس بحجم المبالغ فقط، بل بمدى الضررعلى الثقة العامة، وبحسب رأيه فإن أي تهاون في هذا الملف يعني تآكلاً في أساس الإيرادات الحكومية، لأن المواطن سيتعامل مع النظام الضريبي كمنظومة ابتزاز، لا كواجب وطني، بينما تعتبر القاضية المتقاعدة هالة المحمد أن الأهم هو تحويل هذا الحدث إلى فرصة لبناء ثقافة جديدة في الإدارة العامة، وكما توضح فإن القانون موجود، لكن يجب تفعيل آليات الرقابة الميدانية، وإعادة تأهيل الموظفين على قيم النزاهة، لأن الردع القانوني وحده لا يكفي دون إصلاح إداري شامل.

الآثار السلبية والاجتماعية

من أبرز الانعكاسات السلبية للقضية، كما تقول القاضية المحمد، هو فقدان ثقة المواطنين بالمؤسسات الرسمية، خصوصاً أن المالية تمسّ مصالح الناس اليومية، كما أن تجميد بعض المعاملات وتعطيلها مؤقتاً قد يسبب أضراراً اقتصادية مباشرة، خاصة للمشاريع الصغيرة التي تعتمد على إنجاز معاملات ضريبية أو جمركية سريعة.

أما اجتماعياً، فالقضية أعادت الجدل حول “الوساطة والواسطة” كظاهرة متجذرة في المجتمع، حيث يضطر المواطن أحياناً إلى شراء الخدمة بسبب بطء الإجراءات أو التعقيد البيروقراطي، ويرى بعض المراقبين أن معالجة الفساد يجب أن تبدأ من تبسيط الإجراءات الإدارية وتوسيع التحول الرقمي، للحد من التماس المباشر بين الموظف والمراجع.

نتائج محتملة وإصلاحات منتظرة

إذا ما ثبتت التهم، حسب رأي المحمد، فستكون القضية من أضخم ملفات الفساد الإداري في السنوات الأخيرة، وقد تفتح الباب لتحقيقات في مؤسسات أخرى، فيما وزارة المالية ـبحسب مصادر مطلعةـ تدرس حالياً مجموعة من الإجراءات الوقائية، منها: تفعيل أنظمة المراقبة الإلكترونية على المعاملات، وإنشاء وحدة مستقلة لاستقبال شكاوى المواطنين بسرية، مع إجراء تدريب الكوادر على أخلاقيات الوظيفة العامة، بالإضافة إلى مراجعة نظام الحوافز لضمان عدالة الأجور وتقليل فرص الرشوة.

هذه الخطوات، إن نُفذت بجدية، يمكن أن تحوّل الأزمة إلى نقطة تحول نحو تعزيز الشفافية وبناء ثقة جديدة بين المواطن والإدارة العامة.

توقيف 45 موظفاً في مالية دمشق ليس مجرد “خبر فساد”، بل امتحان حقيقي لقدرة المعنيين على مواجهة ظواهر متجذرة في جهازها الإداري، والنتائج النهائية للتحقيق ستحدد إن كانت القضية بداية لتطهير شامل، أم مجرد جولة في حرب طويلة ضد الفساد، لكن المؤكد أن الشفافية وسرعة العدالة هما الشرطان الوحيدان لاستعادة ثقة المواطن، وتحويل الألم المؤسسي إلى فرصة لإصلاح حقيقي ومستدام.

آخر الأخبار
الكهرباء تكتب فصلاً جديداً في ريف دمشق.. واقع يتحسن وآمال تكبر السكك الحديدية السورية.. شريان التنمية في مرحلة الإعمار  بمشاركة سوريّة.. الملك سلمان يتحدث في مؤتمر "من مكة إلى العالم" جودة الخبز ورفع الجاهزية على طاولة التجارة الداخلية  "مهرجان تسوّق حلب".. عودة الألق لسوق الإنتاج الصناعي والزراعي  بعد تخفيف القيود على التكنولوجيا.. سوريا أمام اختبار البنى التحتية شبكات متهالكة وموارد ناضبة.. أزمة المياه تطرق أبواب دمشق بقوة  خطط وقائية واستجابة سريعة للدفاع المدني باللاذقية التحول الكبير في سوريا.. ماذا بعد زيارة الشرع التاريخية لـ "البيت الأبيض"؟ "تغيير العملة".. قرار استراتيجي يتقاطع مع الإصلاحات الاقتصادية كيف باتت سوريا تمارس دورها الدبلوماسي بحرية كاملة في أميركا؟ من فتح القنوات إلى تقليص الفساد... خطوات للاستفادة من تعليق قيصر نجاح العملة السورية الجديدة مرهون بالحوكمة والشفافية مالية دمشق تحت المجهر.. شبكة فساد أم حملة تطهير؟ التيار الذي أعاد الثقة.. حلب تضيء من جديد فرع للمديرية العامة للموانئ في طرطوس زلزال دبلوماسي.. سوريا نحو نظام إقليمي جديد تعليق "قيصر".. بوابة لإنعاش "التربية والتعليم" المنشآت العلفية والمراكز البيطرية بحلب تحت مجهر الرقابة لقاء الرئيس الشرع مع "النقد الدولي" تحول حاسم نحو الاقتصاد العالمي