الثورة – مها يوسف:
الأب النرجسي قد لا يصرخ أو يضرب لكنه يترك خلفه ندوباً لا تُرى، خلف المظاهر البراقة والابتسامات الاجتماعية المتقنة، يقف الأب النرجسي بوصفه أحد أكثر أنماط الشخصيات إرباكاً وتعقيداً داخل الأسرة هو الأب الذي يضع ذاته في المركز، فيتعامل مع أبنائه وزوجته كامتداد لصورته، لا كأفراد مستقلين لهم أحلامهم ومشاعرهم الخاصة.

الدكتور شادي صلاح الدين حسامو استشاري الصحة النفسية أشار إلى أن الأب النرجسي هو من يرى الآخرين “حتى أبناءه ” كوسائل لخدمة صورته الذاتية قد يبدو ناجحاً أو محبوباً في محيطه، لكنه داخل منزله لا يرى إلا ذاته، منوهاً أن الفرق بينه وبين الأب الحازم أن الحزم يقوم على المحبة والانضباط المتوازن، بينما النرجسية تقوم على السيطرة والتقليل من الآخر ومن أبرز سماته الحساسية المفرطة للنقد، والحاجة المستمرة للثناء، والتلاعب العاطفي، وإنكار المسؤولية عن الأخطاء.
حب مشروط
وأوضح الدكتور حسامو أن هذا النوع من الآباء لا يحب أبناءه لذواتهم، بل يحب صورته المثالية من خلالهم يريد لهم أن يبرعوا ليُقال إنه أبٌ عظيم، لا لأنهم يستحقون الدعم فإذا لم يحقق الابن توقعاته، يعاقبه بالتجاهل أو الإهانة، وإذا نجح يستولي على الإنجاز لنفسه، يعيش الطفل في هذه البيئة بقلق دائم من الفشل، ويشعر أن الحب مشروط بالنجاح والولاء، فينمو داخله شعور عميق بعدم الأمان.
معاناة الأم
ولفت أن الأم تجد نفسها وسط دوامة من الصراعات الداخلية، فهي تحاول حماية أطفالها من الأذى النفسي دون أن تثير غضب الأب، وتحاول في الوقت ذاته الحفاظ على استقرار البيت الهش فتعيش بين مطرقة التمرد على قسوته وسندان الخضوع لصورة الأسرة المثالية التي يحاول فرضها، ومع مرور الوقت تُصاب بالإرهاق العاطفي، وتبدأ تشكك في نفسها تحت وطأة التلاعب النرجسي الذي يبرع في عزلة الضحية عن محيطها، لتجد نفسها وحيدة في مواجهة رجل يُتقن لعب دور الزوج المثالي أمام الآخرين.
تلاعب نفسي
وبيّن د. حسامو أن تأثير الأب النرجسي لا يتوقف عند هذا الحد، بل يمتد إلى استخدام الأطفال كأداة للسيطرة أو الإذلال فقد يستخدمهم لابتزاز الأم عاطفياً أو لكسب الولاء ضدها، فيغدق على أحد الأبناء اهتماماً مفرطاً ليزرع الغيرة والانقسام بينهم، أو يوبخ أحدهم علناً ليُظهر للأم أنه الأقوى، و أحياناً يمتدحه أمام الناس ليعزز صورته كأب متفوق تربوياً، في حين يعيش الطفل في حيرة بين الرغبة في رضا الأب والخوف من فقدانه.
آثار عميقة
هذا النمط التربوي ينعكس على الأطفال بآثار نفسية عميقة، إذ يظهر القلق والشعور بعدم الأمان كظلٍ دائم، وتتراجع الثقة بالنفس لتحل محلها محاولة مرضية لإرضاء الآخرين يتعلم الطفل أن الحب يُشترى بالأداء، وأن القبول لا يأتي إلا عبر الكمال وفي المراهقة قد يتطور الأمر إلى تمرد وعدوانية مفرطة أو إلى خضوع تام وذوبان في شخصية الأب، وكلاهما نتيجة لتشوه الحدود النفسية التي يفترض أن تحمي الذات.
وعي أمومي
وأشار الدكتور حسامو إلى أن الأم تحتاج وسط هذا المناخ المرهق إلى قدر كبير من الوعي والذكاء الانفعالي لتوازن بين حماية أطفالها وعدم خلق صراع مباشر مع الأب، فالمواجهة ليست الحل بل إدارة التوازن هي المفتاح، من المهم أن توفر للأبناء مساحة آمنة للحوار والتعبير دون شحنهم ضد أبيهم، وأن تصغي إليهم وتمنحهم التشجيع غير المشروط كما أن الحصول على دعم مهني متخصص قد يساعدها على بناء استراتيجيات حماية نفسية للأسرة.
وأن العلاج الأسري يلعب دوراً حاسماً في إعادة التوازن داخل العائلة، فهو يساعد على تفكيك أنماط السيطرة وإعادة توزيع القوة النفسية، كما يعلّم كل فرد كيف يحمي حدوده ويتعامل بوعي مع السلوك النرجسيزحتى لو رفض الأب الانخراط في العلاج، يمكن للأم والأبناء أن يستفيدوا من جلسات الدعم النفسي لاستعادة الشعور بالقدرة والسيطرة على حياتهم.
وعي تغييري
ونبّه الدكتور حسامو إلى أن إدراك الأم لطبيعة النرجسية هو الخطوة الأولى نحو التغيير، ففهم السلوك أهم من مقاومته المباشرة، النرجسي لا يتغير بالإقناع أو اللوم بل عندما يفقد تأثير سلوكه المعتاد و على الأم أن تتعامل معه بذكاء، فتجاريه شكلياً دون خضوع فعلي، وتعيد صياغة المواقف والعبارات بما يخفف من حدة الصدام كأن تقول : «معك الحق بأن ترى الأمور كذلك، دعنا نفكر بطريقة ترضينا جميعًا» بدلاً من المواجهة المباشرة.
و يُنصح بعدم انتقاد الأب أمام الأطفال حتى لا يزرع الانقسام بينهم، ومدح السلوك الإيجابي لدى الأبناء ليشعروا أن اللطف قوة وليس ضعفاً ومن الضروري ضبط السلوك العدواني عند الأطفال دون صدام، والتعامل مع مشاعر الغضب لديهم بتفهم واحتواء والأهم هو الحفاظ على شبكة دعم اجتماعية قوية من الأصدقاء أو المختصين، وتوفير أمان نفسي حقيقي للأطفال حتى في ظل غياب الأمان العاطفي من الأب.
وختم د. حسامو حديثه برسالة توعوية موجهة للأسر قائلاً : “أطفال اليوم هم آباء الغد عندما نُشبع حاجاتهم بالحب غير المشروط ، نزرع فيهم الأمان لا الحاجة للسيطرة فلنتعلم أن نُحب أبناءنا كما هم لا كما نريدهم أن يكونوا فكل طفل يستحق أن يُرى ويُقدر لذاته، لا أن يُستَخدم ليُعزز صورة أحد.