بقلم الدكتور حسن أحمد حسن:
أمران يشترك بهما كل الناس في شتى أنحاء المعمورة الولادة والممات، فلا بقاء لبشر، ولا يستشار مولود قبل ولادته، ولأن الولادات تبقى في دوائر الأهل والأقربين تتراجع بالمرتبة أمام الموت الذي لا مفر منه، وهو يكتسب خصوصية ذاتية عندما يكون جماعياً بفعل الكوارث الطبيعية التي لا طاقة للبشر بردها أو الحيلولة دون حدوثها، ولأنها تفوق الطاقة البشرية، ولا تستطيع أية دولة أو جماعة الادعاء بأنها محصنة ولن تطالها تلك الكوارث أصبح من المتعارف عليه أخلاقياً ومجتمعياً ضرورة تنحية الخلافات البينية، وتناسي الأحقاد الشخصية والمسارعة لتقديم المساعدة والعون وإعلان التعاطف مع من تلم بهم تلك الكوارث الطبيعية لأنها تخلّف العديد من الأزمات الصحية والغذائية والبيئية والأمنية والمجتمعية، ومن غير المجدي النأي بالنفس وحتى في حالات الحروب يصبح مطلوباً تضافر الجهود وتنسيق التعاون للحد من تداعيات تلك الكوارث، فالإنسانية تأبى إلا أن تتفوق على السياسات العدوانية وتقول كلمتها بغض النظر عن المواقف الذاتية للأفراد والرسمية للمنظمات والمجتمعات والدول، وإذ وُجِدَ من يصرُّ على ركوب الرأس الحامية يُنْظَر إليه على أنه غير سوي، وبعيداً عن الإنسانية وقيمها السمحة التي لا يجوز انتهاك نقائها تحت أي مسمى أو عنوان، وبالتالي من يصم أذنيه عن نداء الواجب الإنساني هو مقصر بحق نفسه قبل التقصير بحق غيره ممن تعرض للكوارث، وهو متناقض بسياسته الخاصة مع الإنسانية التي يجب أن تشمل الجميع، ومن هنا يمكن القول: إن التقاعس و التقصير في المساهمة والمساعدة والتعاطف مع من تلمُّ بهم الكوارث لا يعني التعنُّتَ السياسي فحسب، بل هذا دليل دامغ على مناصبة الإنسانية العداء، ومن كان عدواً للإنسانية فإنه عدو نفسه وعدو الحق والخير والجمال والسلام والبراءة والطفولة وكل القيم السامية العليا التي يجب أن تحتل المرتبة الأولى بغض النظر عن درجة العدوانية والشر والأحقاد والتآمر التي تتضمنها السياسات العدوانية التي تبيح لصنَّاعها ومعتمديها هضم حقوق الآخرين والتمتع بعذاباتهم وجراحاتهم وسرقة مقدراتهم وخيراتهم ومصادرة حقوقهم المشروعة، وكل ذلك يتجلى بوضوح في سياسات الحصار الجائر المفروض على الشعب السوري من قبل من ينصبون أنفسهم حماة للإنسانية والحرية والديمقراطية، وهم براء من ذلك كله.
الزلزال المدمر الذي أدمى السوريين أكثر فأكثر، وزاد من عمق جراحاتهم النازفة منذ اثنتي عشرة سنة يفترض أن يكون منصة لرمي أحقاد من تعثرت نصالهم وحرابهم المسمومة بصلابة اللحم لسوري، وأيقنوا أن سورية شعباً وجيشاً وقيادة لن تموت جوعاً قط، وفي الوقت نفسه لا يمكن أن تأكل بثديي الكرامة والسيادة..
نعم على الرغم من شدة الزلزال وهول ما خلفه من قتل وتشريد وآلام فبالإمكان تحويله بتضافر جهود عشاق الإنسانية من تحدٍ وخطر وجودي إلى فرصة لإعادة النظر بعقم السياسات العدوانية التي تحذف من قاموسها إنسانية الإنسان، ويخطئ من يتوهم أنه يمكن خداع عشاق الإنسانية الحقة عبر الاستمرار بالمداورة والمناورة والتلاعب بالكلمات وتغطية الوجه القبيح لسياسة الحصار وفرض العقوبات الأحادية المتناقضة مع كل ما له علاقة بالإنسانية، والإنسانية كلٌّ لا يتجزأ، فالطفل الذي تفيض روحه تحت الأنقاض والركام في هذه الدولة أو تلك، أو في هذه المنطقة أو ما يجاورها يتألم بالدرجة نفسها التي يتعرض لها نظيره الذي يعيش الحالة ذاتها بغض النظر عن الهوية والانتماء ومكان الإقامة، ومن حق الدولة السورية وواجبها أن تناشد المجتمع الإنساني لمساعدة هذا الشعب الصامد المصابر للتخفيف من الآلام والويلات التي خلفتها كارثة الزلزال المدمر، ومن واجب المجتمع الدولي المسارعة لتقديم كل ما يمكن تقديمه والاستثمار في هذا الظرف القاهر، وتحويله إلى فرصة لوضع حد ونهاية لسياسة الحصار والتجويع والاحتلال وسرقة الثروات، وليس باستطاعة واشنطن على الرغم من كل ما تمتلكه من جبروت وسطوة أن تقول أنها ضد تقديم المساعدات التي تفرضها القيم الإنسانية في مثل هذه الظروف، ولكنها تستطيع أن ترفع سراً عصا التهديد بالويل والثبور وعظائم الأمور لمن لا يستجيب لما تمليه سياستها العدوانية، مع ترك هامش للمناورة بالإعلان اللفظي عن الرغبة بتقديم المساعدة، والاكتفاء بإصدار بيانات كلامية لا تغير من حقيقة الواقع المأساوي الذي يعيشه السوريون، ومع ذلك حتى في هذه البيانات الشكلية قيمة مضافة لصالح الإنسانية وقيمها في مواجهة شرور السياسات العدائية الأمريكية، فالدولة السورية تقوم بما تستطيع وأكثر، وباهتمام كبير ومتابعة مباشرة من السيد الرئيس ووفق توجيهاته لجميع الوزراء في الجلسة الطارئة التي عقدت بعد وقوع الزلزال المدمر مباشرة، وترافق ذلك مع مناشدة دول العالم لتقديم العون والمساعدة، وهذا حق الدولة السورية، كما أنه من حقها وواجبها رفض ما يتظاهر حكام تل أبيب بالرغبة في تقديمه وهم أس البلايا والرزايا، فضلاً عن أن كيانهم الغاصب لم يرقَ إلى مستوى الدولة من وجهة نظر الدولة السورية ـ كما أوضح السيد وزير الخارجية ـ لأنه قائم على القتل وسفك الدماء واغتصاب أراضي الآخرين وحقوقهم بما يتناقض وكل ما له علاقة بالقانون الدولي، وانطلاقاً من هذه الحقيقة الدامغة فكل ما يصدر عن ذاك الكيان يبقى مرفوضاً لأنه قائم على عدوانية تتجاوز حدود المنطقة وتطال الإنسانية كقيمة عليا للبشرية جمعاء.
السوريون بقضهم وقضيضهم يشكرون كل من انتصر للإنسانية في مواجهة العدوانية وسارع لتقديم الدعم والمساعدة متجاوزاً الفيتو الأمريكي الهادف لنحر القيم العليا والمثل الإنسانية التي أفرزتها الحضارة الإنسانية عبر تاريخها الطويل.. والسوريون اليوم أحوج ما يكونون لكل أشكال الدعم والمساعدة، وما هو متاح اليوم بقيمة معنوية كبيرة قد تقل قيمته مع مرور الوقت، فقيمة المساعدة بوصولها في الوقت المناسب، وليس بعد فوات الأوان، ومن هنا يمكن القول: إن الطائرات المحملة بالمساعدات التي تصل سورية تتجاوز بمعانيها ودلالاتها القيمة المادية لما تحمله بكثير، ومواقف التأييد والتعاطف التي صدرت عن الدول والتنظيمات والمؤسسات إقليمياً ودولياً والاتصالات الرسمية التي تلقاها قائد الوطن تؤكد أن أبواب دمشق كانت وتبقى عالية ومفتوحة لكل جهد إنساني مخلص بعيداً عن لغة التهديد والوعيد أو حياكة التآمر والاستهداف الممنهج في الغرف المظلمة، فالإنسانية ببهائها ونقائها وسموها أكبر من أن تقارن بعدوانية متأصلة، و أحقاد دفينة مستعصية ستقتل حامليها قبل غيرهم، وأبناء سورية اليوم رغم الجراحات الراعفة والعميقة والخطيرة على يقين بالقدرة على تجاوز تداعيات الكارثة على الرغم من هولها بفضل روح التجدد والانبعاث والقدرة على نهوض الفينيق من تحت الرماد والتحليق عالياً بجناحي الإرادة والإنسانية.