ثورة أون لاين -بقلم رئيس التحرير علي قاسم :
تعود لغة المشانق إلى الحضور في الخطاب التركي وعلناً.. تتجاوز مرحلة التلويح، وتصل عتبة النصب المادي والمعنوي لأعوادها المشهرة مستعيدة تاريخاً طويلاً ومديداً من الذاكرة الجمعية لشعوب المنطقة، حين كانت المشانق العثمانية -اصطلاحاً-
منهجاً ثابتاً في سياسة القمع والقتل المسلّطة على الرقاب والعقول معاً، ومقياساً لوجود السلطنة بشقّيها السياسي والميداني.
بعد مئة عام لا تبدو المعضلة في استرجاع الذاكرة، بقدر ما هو مضمر في خطواتها وهي تخفي خلفها دوراً مشابهاً تطورت فيه مشاهد المشانق، حيث العزل السياسي جزء منها، والاعتقال بعض من نماذجها، والتسلُّط والتجريد والانتقام السياسي والجسدي في الآن ذاته يتطابق معها في النتيجة وصولاً إلى الإعدام، وهو ما يعيد المشهد إلى مربعه الأول ومن الزاوية ذاتها التي طالما شكلت في الوجدان صورة بائسة من صور التسلُّط والظلامية البائدة.
التحذيرات الدولية من حملة الانتقام لم تعد فقط في منازلة سياسية تمتد جذورها في لحظة فارقة من تاريخ المنطقة، بل بما تمثله من هواجس ومخاوف أن تكون الارتدادات الزلزالية القادمة أخطر مما جرى حتى اللحظة، إذ ليس لدى أحد من شك بأن الخطوات الانتقامية وحملة العزل لن تمر من دون زلازل موازية على الداخل التركي الذي يتجه نحو الانفجار بالضرورة، في حين إن ما ينشده العالم من مقاصد سياسية نحو الاستقرار يبتعد بخطوات ويفسح في المجال أمام تداعيات عاصفة ومدويّة في المنحى عينه وبالطريقة ذاتها.
هكذا كانت صورة القمع تعبيراً عن العجز والفشل، فيما لغة المشانق سياسياً أو جسدياً تمثّل اليوم أسلوباً للانتحار السياسي الذي يُقدم عليه نظام أردوغان بطريقة الصعود نحو الهاوية، أو الهبوط نحو قمة العبث بمكونات هشة قابلة للاشتعال، بما يعكسه من مخاطر تمثّل التهديد الأكبر بانزلاق المنطقة نحو براكين سياسية لن تقف حممها داخل الجغرافيا التركية ولا حتى جغرافيا المنطقة.
فالإرث الذي راكمه أردوغان والبيئة التي أنتجها، أصبحت بالعُرْف السياسي الملموس تشكيلاً من المفخخات المتنقلة، التي زرعتها سياسة التعاطي مع الإرهاب، والعلاقة الحميمية التي باتت جزءاً من الحصاد الـمُر لا بد أن تترك حضورها المتورّم في الخيارات التي دفعت بتركيا نحو التجرّد من وجودها السياسي لتكون مجرد توابع اهتزازية في قوس الأزمات المتنقلة، وفي أغلب الأحيان جزءاً من مضمار السباق نحو التشفّي مما حصل.
فالانقلاب على الانقلاب لا ينحصر في حملة الانتقام الممنهجة على الصعيد الشخصي أو الحزبي، بل يمتد في جذر الوجود التركي داخل مغلفات المعادلة الإقليمية، حيث تتساوى فيها التحذيرات الدولية الصادرة مع الأوامر الأردوغانية الموغلة في التشفّي من بقايا الشطط السياسي، إذ لا تكاد تخرج من مستنقع التسلُّط حتى تدخل في قاع التورّم الإضافي المتخم بشخصنة تصفية الخصوم السياسيين وغير السياسيين، وتصبح الإخوانية المحمولة على إرث العثمانية وأحلام السلطنة فيها، أبعد من تحزُّب سياسي وأقرب إلى منهج انتقام في السياسة والاقتصاد والممارسة، ضحيتها تركيا أولاً والمنطقة والعالم ثانياً.
لن ندخل في مجادلات حول أبعاد وأسباب ما يجري والحقيقة المدفونة في تفاصيلها، بقدر ما نحاول أن نتلمّس بعضاً من مؤشرات.. وسط سيل من التطورات المتلاحقة، حيث أردوغان لا ينتقم فقط من الانقلابيين إن صحّت التسمية، ولا من خصوم الطبقة السياسية، رغم ما أبدوه من معارضة للانقلابيين، بل أيضاً من الشعب التركي ومن إرثه المحمول على أكتاف جمهوريته التي تدفنها لغة المشانق إلى غير رجعة.
التدحرج التركي يتجاوز اليوم سقوف الانتقام ويصل عتبة برميل البارود، فيما التثاؤب الداخلي ومواقف القوى السياسية التركية مغلولة بمشاهد التلويح بأعواد المشانق، أو بساحات الإعدام الجماعية والتصفية السياسية، أو هو رهينة رهاب العلاقة مع المؤسسة العسكرية التي يُراد لها أن تُطحن، والبديل التحزُّب والإخوانية وإعادة تشكيل المشهد التركي بحلّته الإخوانية كفقاعات من الكذب الإضافي في حلبة تحفل بكل ما هو خارج العقل والمنطق، لتكون الشرعية مقصلة أردوغان الجديدة.
بين هذه وتلك، تبدو كرة المفاجآت الأقرب إلى الواقع، والأكثر حضوراً، حيث المشانق ليست أعواداً تُنصب، والمقصلة ليست فقط لقطع الرقاب، بل كلاهما يصلُح ليكون عنواناً إضافياً في صفحات مفردة لتسونامي جارف بعد هزّة لم يكن الانقلاب المشطور بين مُخادع ومخدوع، سوى قصف تمهيدي فتح الباب على مجهول تترنّح تركيا من التدحرج بين منحنياته، فيما أردوغان بانتقاميته وسفاحيته وأعواد مشانقه، التي يلوّح بها مجرّد رجع صدى استباقي لما هو آت..!!
a.ka667@yahoo.com