تؤشر المعطيات القادمة من واشنطن ومن الكيان الصهيوني بأن الانسحاب الأميركي من سورية لن يكون كاملاً كما تم الترويج له بعد الاعلان عن قرار الانسحاب في كانون أول الماضي، وهو الذي يعاني تباطؤاً مقصوداً وملموساً على أرض الواقع بسبب خلافات داخلية بين الرئيس دونالد ترامب وبعض أركان إدارته، بمعنى أن الانسحاب سيتم فقط من منطقة شرقي الفرات مع ترتيبات أميركية تراعي المصالح والأطماع التركية من جهة، وتحاول تبديد مخاوف وهواجس مليشيا قسد تجاه النيات التركية بالاجتياح من جهة أخرى، في حين تجري نقاشات في واشنطن تحت ضغط اللوبي الداعم لإسرائيل من أجل إبقاء جزء من هذه القوات في منطقة التنف بناء على رغبة نتنياهو الذي اعتبر نفسه الخاسر الأكبر جراء هذا الانسحاب، لأنه ترك الساحة للوجود الإيراني على حد زعمه. تقول مجلة فورن بوليسي الأميركية في تقرير لها أن خطة الحفاظ على الوجود العسكري الأميركي في التنف بهدف التصدي لما يسمى نفوذ إيران هي قيد الدراسة لدى الحكومة الأميركية، لكنها اعتبرت أن هناك مشكلات قانونية أمام بقاء هذه القوات في هذه المنطقة تتعلق بوعود وتصريحات ترامب حول هدف الوجود الأميركي في سورية والتي صبت بمجملها في إطار دحر وسحق تنظيم داعش الإرهابي حسب ادعاءاته الرسمية.
من المعلوم أن قرار الانسحاب الأميركي من سورية كان أحد وعود ترامب خلال حملته الانتخابية، ثم صار قراراً رسمياً في شهر آذار الماضي، لكن تم تأجيل تنفيذه إلى وقت آخر لأسباب غير واضحة أو معلومة، وإن كان ترامب قد هدد به حلفاء أميركا في المنطقة على نية ابتزازهم مالياً، وعرض على بعض دول المنطقة نشر قوات لها في هذه المنطقة لاستكمال ما يسمى المهمة الأميركية، وفيما بعد جرى ربط الوجود الاميركي غير الشرعي في سورية بقضايا أخرى مثل محاربة النفوذ الإيراني ومسألة إنجاز الحل السياسي للأزمة في سورية..إلخ.
في المعلومات المتقاطعة من قبل مصادر متعددة، تعرض ترامب لضغط كبير من بعض صقور الدولة الأميركية العميقة الذين اعتبروا الانسحاب خطأ فادحاً من أجل التراجع عن قراره وحدثت استقالات في إدارته، فلجأ إلى تأخير موعد الانسحاب وتوسيع الجدول الزمني المخصص لهذه العملية، وتضيف بعض المصادر أن الأميركيين يريدون لانسحابهم ثمناً سياسياً بعد أن تعثرت إمكانية الحصول على ثمن مادي، وقد عرض على الجانب الروسي مقايضة هذا الانسحاب الأميركي بانسحاب إيراني من سورية إرضاء للكيان الصهيوني الذي اندحر مشروعه في سورية وزادت هواجسه الوجودية بسبب انتصارات محور المقاومة، لكن هذا الطرح قوبل بالرفض من الدولة السورية، لأن الوجود الإيراني ـ وهو وجود استشاري بالأساس وفي إطار مهمة محددة هي مكافحة الارهاب ـ شرعي وقانوني وتم بطلب من الحكومة الشرعية في البلاد من أجل المساهمة في مكافحة الارهاب، بينما الوجود الأميركي هو وجود احتلالي مفروض ينتهك الميثاق والقانون الدولي، وقد برر نفسه بمحاربة الارهاب الداعشي، الذي كانت الولايات المتحدة باعتراف ترامب نفسه أحد رعاته الكبار، وهذا ما ورد في اتهاماته لإدارة أوباما خلال الحملة الانتخابية الرئاسية عام 2016.
يقول قيادي عسكري أميركي سابق لمجلة فورين بوليسي: إن قاعدة التنف تعد عنصراً ذا أهمية حرجة ضمن المساعي الأميركية الرامية إلى منع إ قامة جسر بري بين العراق وسورية إلى جنوب لبنان لدعم حزب الله، ويتيح هذا التواجد حرمان إيران من الدعم لهذا الجسر.
تشير الفورن بوليسي إلى أن خطة سحب القوات الأميركية من سورية تقضي بأن نحو 200 جندي في قاعدة التنف سيكونون آخر قوات ستغادر البلاد، غير أن الحكومة الأميركية تدرس خطة بديلة تقضي بإبقاء جزء من هذه القوات على الأقل في القاعدة، نظراً بالنسبة لهم وأن هذه الأهمية لا تقتصر على القاعدة الصغيرة فقط، بل المنطقة العازلة بـ55 كلم حولها، مؤكدة أن هذه المنطقة تمنح للقوات الأميركية فرصة استهداف أي قوات إيرانية تدخل المنطقة، بذريعة «الدفاع عن النفس».
والمثير للسخرية هنا أنه لا يتم الحديث عن وجود أميركي احتلالي غير شرعي لجزء من الأرض السورية خدمة لمصالح إسرائيلية بحتة، بل يتم تسويق الأمر وكأنه حق طبيعي للأميركيين والإسرائيليين في منع حلفاء سورية من مساعدتها في مكافحة الارهاب الذي تتعرض له بدعم واضح من أميركا وإسرائيل وحلفائهم وأدواتهم في المنطقة.
في السياق نفسه يبدو أن بقاء جزء من القوات الأميركية في منطقة التنف هو حبل النجاة الوحيد المتبقي أمام نتنياهو للتخلص من هواجسه ومخاوفه المتعلقة بالوجود الإيراني في سورية وعودة سورية إلى سكة التعافي والاستقرار، إذ تؤكد وسائل إعلام أميركية أن واشنطن ونتيجة ضغوط إسرائيلية مكثفة تدرس إمكانية الحفاظ على هذا التواجد إلى أجل غير محدد.
وفي المعطيات القادمة من واشنطن إن نتنياهو يبذل كل ما بوسعه من أجل إقناع ترامب في إبقاء قواته في التنف، وأن الأخير يصغي إليه، إذ يحلم نتنياهو بأن يتحول هذا الوجود إلى عامل ردع لما يسميه نفوذ إيران، الأمر الذي يكشف عمق مأزق نتنياهو جراء انتصار محور المقاومة واضطرار الأميركيين للانسحاب كتعبير عن الهزيمة التي لحقت بمشروعهم.
يمكن القول باختصار: إن التدخل الأميركي في سورية يكشف للمرة الألف أن لا علاقة لواشنطن بمكافحة الارهاب، بل غايتها الأساسية المحافظة على مصالح وأمن إسرائيل التي يتسول حكامها الإبقاء على هذا التدخل بسبب الخوف الذي يحاصر كيانهم نتيجة هزيمة المشروع الإرهابي وانتصار سورية وحلفائها، وما يمكن أن يثمر عنه هذا الانتصار على جبهات أخرى، ويبقى السؤال: هل تغامر واشنطن بإبقاء جزء من قواتها في التنف وتتحمل نتائج هذا القرار في ظل عزم سورية وحلفائها على تحرير كل شبر محتل من الأرض السورية..؟!
عبد الحليم سعود
التاريخ: الأربعاء 30-1-2019
رقم العدد : 16897