الملجق الثقافي:
شهد النصف الثاني من ثلاثينيات القرن الماضي اشتباكات قوية بين الجماليات المتنافسة المتمثلة في التجريد والواقعية الاشتراكية والسريالية. كانت المناظرات الجمالية التي أحاطت بهذه الحركات موضوعاً لأبحاث تاريخية مهمة في الفن في السنوات الأخيرة. وفي النصف الأول من القرن العشرين كتب كينيث كلارك مقالاً بعنوان «مستقبل الرسم»، نشر عام 1935 تنبأ بمعارضته للتطرف الطليعي وبدعمه لـ «الحداثة الرومانسية»، في اللحظة التي كان فيها هيربرت ريدينغ، قد نشر رداً إلى كلارك في نفس المجلة بعد أسبوع، مدافعاً عن متاريس البنائية والسريالية في تجلياتها الإنجليزية المتأخرة.
أنكر كلارك أن يكون للوحة مستقبل: «إن فن الرسم أصبح من الصعب للغاية إن لم يكن مستحيلاً». وهكذا يعلن كلارك عن «موت اللوحة» مع خلفائه العديدين بعد الحرب، أو مع «العمل الفني في عصر الاستنساخ الميكانيكي»، الذي ألفه الفيلسوف الألماني والتر بينجامين في باريس في خريف 1935، الذي شدد بشكل ملحوظ على الإمكانات السياسية لوسائل الإعلام القائمة على العدسة.
في استقراء اللوحة المستقبلية، شرع كلارك في التقليل من قيمة البدائل المتاحة. إن «الانطباعين المتأخرين أو الرسامين المحترفين هم أرواح حساسة، تتوافق مع الليبرالية في السياسة، ولكن عملهم يفتقد رموزاً قوية، وبعبارة أخرى، المحتوى. أعلن «استحالة التعميم حول الفن الإنجليزي»، إلى جانب الإشارة إلى ألمانيا وتأثيرها الباهت على الفن الحديث في تناول مسألة «ماذا بعد في الفن؟» معرباً عن أسفه لسيطرة الدولة على الفن.
وبعبارات أكثر تحديداً، فإن أعراض الانحطاط فيما يتعلق بـ «المدارس المتقدمة للرسم»، وبالتحديد السريالية (المعروفة في بعض الدوائر البريطانية بـ «الواقعية الفائقة») والتجريد، تشكل لكلارك «اعتماداً شديداً على النظرية» – وهو أمر مألوف في نقد اللغة الإنجليزية – والتفرد في المواقف المتباينة: «كل مجموعة تشبه طائفة معارضة صغيرة، متأكدة من الخلاص بينما يكون العالم الباقي ملعوناً».
الفن التجريدي «له عيب قاتل في النقاء»، أي عدم القدرة على التواصل مع الحقائق الوجودية للمشاهد. «يعكس السرياليون اكتشافاً عظيماً جداً، خلال العشرين سنة الماضية ، أثر في حياة وعادات فكر كل شخص متحضر». وهي تبدأ من إحدى الحقائق الأساسية للعلم الجمالي، والتي يجب أن تسبقها صورة ثابتة بقوة عمل فني. ومع ذلك، فقد أصبحوا يشعرون بالحزن لأن الفنانين شعروا بأنهم مجبرين على «إنتاج صور غريبة وغير مسبوقة» ، مستحضرين «حالات عاطفية مفعمة بالحيوية» ويقدمون مجرّد هروب وتقصير «خادع» للخلاص الروحي.
يقول كلارك «مهما كان شكل المجتمع الذي سيأخذه، فلن يحكمه أناس يحبون الرسم التكعيبي والواقعي». كلاهما، في الواقع «زمرة من الأشخاص في منتصف العمر»، وينظر إليها على أنها أفضل «نهاية فترة من الوعي الذاتي». إن تعثر التجارب الطليعية. أدى إلى تقييمه المتشدد بأن «العالم الغربي سيفقد الفن لعدة عقود». ومن المثير للاهتمام، أنه يرى أن «الأسطورة الماركسية» مهيمنة في ذلك الوقت، ولكنها تفتقر إلى «الأيقونية المغرية».
إن الفترة التي كتب فيها كلارك، كانت خطيرة ومتوترة، لدرجة أن الفنانين أنفسهم كانوا يطرحون سؤال الفن، ويتبنى بعضهم موقف الحزن واليأس وفقدان الأمل وحتى الاشمئزاز. إنه في نظر كثير منهم ليس سوى عالم بلا فن. باختصار، كان هذا «العصر الذهبي» لملصق الإعلانات البريطاني.
كان التجريد الأوروبي والسريالية مؤشرين للمستقبل، حيث سينتصر الخير على كل الشرور الواضحة جداً للحاضر. هذا هو التفاؤل الوحيد الذي طمأن الفنانين والنقاد على السواء. ومع ذلك يستنتج كلارك: «لقد فقدنا الثقة في استقرار النظام الطبيعي». والأسوأ من ذلك أنه كان يدرك أنه في ظل الظروف الحالية، فإن الهروب إلى عالم مثالي أمر مستحيل.
التاريخ: الثلاثاء 29-1-2019
رقم العدد : 16896