على نحو مفاجئ يدعو للاستغراب وفي أسابيع قليلة من بدء احتجاجات شعبية في السودان قادتها في الشكل نخب مدنية، ومع فشل الرئيس عمر البشير وحكومته في التعاطي مع مطالب المحتجين ومعالجة الأمور التي أدت إلى تدهور الوضع، تبعثر المشهد السوداني بشكل دراماتيكي، وتسارعت الأحداث بشكل يصعب التنبؤ بما سيحدث في اليوم التالي، إذ لا أحد يستطيع أن يجزم أن ما حدث في السودان هو مجرد انقلاب داخل المؤسسة العسكرية بعد أن تولى مجلس عسكري زمام الأمور وبدأ يتخذ إجراءاته كسلطة حكم ومنها وضع البشير في السجن واعتقال قيادات الحزب الحاكم وتسريح عدد من قيادات السلطة القضائية، أم أن ما يجري هو حراك مدني «سلمي» أملته الظروف المعيشية الصعبة في البلاد، أو أنه مخطط ـ على شاكلة ما جرى في دول عربية عديدة ـ تديره وتدعمه جهات لها مصلحة في تخريب بلد عربي جديد في خضم حالة الفوضى المتنقلة التي تعيشها المنطقة العربية بوجه خاص.
مشهد المظاهرات المستمرة خارج مقر القيادة العامة للجيش السوداني ومطالبات المتظاهرين بنقل السلطة في أقرب وقت إلى حكومة مدنية يشير إلى أن الأمور لن تنتهي عند هذا الحد، وأن ثمة تفاعلات قادمة قد تقلب المشهد رأسا على عقب تبعاً للجهات التي تتحكم بالمشهد وتديره عن بعد، فالسودان الذي يعيش حالة من التمزق والنزاع أدت إلى انفصال جنوبه قبل سنوات، وعانى حرباً أهلية في أكبر الأقاليم شمال البلاد «إقليم دارفور» لم تضع أوزارها بعد، وصراعات بين السلطة القائمة ومعارضيها، من الصعب أن يعود إلى حالة الاستقرار الهشة التي كان يعيشها، في ظل وجود مخططات خارجية لاستهداف هذا البلد العربي الغني بثرواته ومياهه كان من بينها فصل جنوبه عن شماله قبل سنوات بتواطؤ عربي ودولي، وليس سراً أن الكيان الصهيوني قد لعب أحد الأدوار الخبيثة في هذا الانفصال بدليل العلاقة القائمة بينه وبين من سيطروا على مقاليد السلطة في جوبا بعد الانفصال مباشرة.
ما من شك أن الفوضى الأميركية التي سادت المنطقة العربية أواخر عام 2010 تحت اسم الربيع العربي وما تزال مستمرة حتى اليوم بأشكال مختلفة، لم تكن تستثني السودان، بل يمكن القول أن السودان دخل هذه الفوضى قبل هذا التاريخ بكثير حيث اندلع الصراع في جنوب البلاد منذ ثمانينات القرن الماضي ولم يتوقف حتى وافقت الخرطوم على انفصال الجنوب الغني بالنفط والمياه، في حين اندلع صراع دموي آخر في إقليم دارفور كان من نتائجه اتهام البشير بارتكاب جرائم حرب في الإقليم وهو ما أدى لاستصدار مذكرتي توقيف دوليتين بحقه عن طريق المحكمة الجنائية الدولية عامي 2009 و2010 بتهمة الإبادة وارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب ارتكبت في إقليم دارفور بين عامي 2003 و2008، لكنه تم تجميد هاتين المذكرتين وإبطال مفعولهما حتى اليوم، وفي هذا السياق أكد المجلس العسكري الانتقالي في السودان ان قرار تسليم البشير إلى المحكمة الجنائية الدولية يعود إلى حكومة منتخبة حسب زعمه. تطور آخر يؤكد أن بعض البلدان العربية الدائرة في الفلك الأميركي غير بعيدة عما يجري في السودان وأن لها دورا ما فيه، فقد أشاد رئيس المجلس العسكري الانتقالي الفريق الركن عبد الفتاح البرهان، بالعلاقات بين بلاده وبين السعودية والإمارات أثناء استقباله وفدا مشتركا من الدولتين الخليجيتين، حيث يعتبر الوفد السعودي الإماراتي المشترك أول وفد خارجي يزور السودان بعد الأحداث التي أدت إلى عزل البشير واعتقاله، وكان لافتا نقل الوفد المذكور رسالة شفهية تضمنت تحيات قيادتي البلدين واستعدادهما لدعم ومساندة السودان وشعبه في هذه المرحلة. كما بحث الوفد المشترك مع نائب رئيس المجلس العسكري الانتقالي الفريق أول محمد حمدان دقلو العلاقات بين الدول الثلاث، وجدد خلال هذا اللقاء حرص السعودية والإمارات على أمن السودان واستقراره على حد زعمه.
التطور الآخر الذي يشير إلى يد أميركية خفية فيما يجري هو ما قاله مسؤول كبير في الخارجية الأميركية من أن بلاده ستبحث رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، إذا رأت تغييرات جوهرية في حكومته وبعد حدوث انتقال سياسي سلس.
يذكر ان إدارة ترامب كانت قد أوقفت المحادثات المتعلقة بتطبيع العلاقات مع السودان بعد أن عزل الجيش الرئيس البشير الأسبوع الماضي، وهو إجراء الهدف منه وضع السودان تحت الضغط السياسي إلى حين تسلمه الشروط الأميركية وتلبيتها وتنفيذ مضمونها كما جرى في بلدان عربية اقتحمتها الفوضى الأميركية ليس آخرها مصر الجارة الأقرب للسودان. وفي هذا السياق قال الكاتب الصحفي السعودي سلمان الدوسري، إن «الولايات المتحدة لا تعارض المجلس الانتقالي العسكري السوداني». وأضاف في تغريدة عبر موقع التواصل الاجتماعي «تويتر»: «الدعم يزداد للتغييرات التي شهدتها البلاد ربيع السودان حتى الآن خسائر محدودة ومكاسب جمة» حسب زعمه.
تؤكد حملة الاعتقالات التي طالت عددا من قيادات الحزب الحاكم وإحالتهم إلى سجن كوبر الشهير وخاصة رئيس البرلمان إبراهيم أحمد عمر الذي وصل أمس إلى الخرطوم بعد زيارة لقطر أن هناك رغبة سعودية إماراتية مصرية في إبعاد قطر عن المشهد السوداني بسبب الخلاف المحتدم معها في السنوات الماضية، وهذا يعني أن المجلس العسكري يحظى برعاية ودعم من قبل الدول الثلاث أكدته زيارة الوفد الإماراتي السعودي المشترك للخرطوم.
في كل الأحوال لا يمكن الاطمئنان لمصير السودان في ظل التدخلات الجارية والتصريحات المتتالية من قبل واشنطن وعدد من أدواتها في المنطقة، وليس سراً أن كل المناطق التي تدخلت فيها أميركا وأدواتها كان عنوان المشهد فيها الدمار والفوضى وعدم الاستقرار، إذ لا مصلحة أميركية البتة في أن تنجح إرادة الشعب السوداني في التغيير الديمقراطي أو السلمي، في الوقت الذي تتكفل هي بحماية أكثر الأنظمة تخلفاً وقمعاً وديكتاتورية في منطقتنا، بينما تسعى بكل ما لديها من إمكانات عسكرية واقتصادية وسياسية لتخريب البلدان العربية التي تشهد حالة من الاستقرار والأمن وتعيش حالة من النهوض والتطور على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي كما كان الحال في سورية قبل اندلاع الربيع الأميركي الأسود.
كل ما نتمناه أن يتمكن الشعب السوداني الشقيق من تجاوز محنته الحالية واستعادة أمنه واستقراره وقطع أيدي العابثين بوحدته، إذ يكفيه ما عاناه هذا الشعب طيلة عقود طويلة من الحصار والاستهداف والعدوان والمخططات المشبوهة التي نجحت في تقسيمه وتسعى اليوم لنهب ثرواته وشرذمة شعبه ووضعه تحت الوصاية الأميركية والغربية.
عبد الحليم سعود
التاريخ: الخميس 18-4-2019
رقم العدد : 16960