الملحق الثقافي:سلام الفاضل:
لم يكن الأمير شكيب أرسلان أمير البيان فحسب؛ بل كان أمير القلوب والعقول، تربع على عروشها بما ملكه من موهبة المنح والبذل، وهو الرجل الذي وهب حبره ونفسه لأمته وقضاياها في التحرر والاستقلال، وبقي معلقاً بتراب وطنه على الرغم من تطاول سني غربته، وأصبح بعلمه وخبرته وإخلاصه منارة تهتدي بقبسها الأجيال.
والكتاب الشهري لليافعة الذي صدر مؤخراً تحت عنوان (أمير البيان شكيب أرسلان)، تأليف: د. جمال أبو سمرة، ضمن سلسلة «أعلام ومبدعون» عن الهيئة العامة السورية للكتاب، يتناول بين دفتيه الحديث عن حياة وأدب وفكر هذا السياسي المخضرم، والرجل العلاّمة، والأمير الشاعر.
ولد الأمير شكيب أرسلان في الخامس والعشرين من كانون الأول عام 1869 في بلدة الشويفات على مرتفعات جبل لبنان. كان أبوه حمود أرسلان الذي يرقى نسبه إلى الأمير مسعود الأرسلاني له حظه في الثقافة كما في الإدارة، وكان مسموع الكلمة، مهيب الجانب، على بسطة من الحياة والرزق والجاه، وكان مديراً لناحية الشويفات.
تربى الأمير شكيب أرسلان في كنف والده وعائلته، وما إن بلغ الخامسة من عمره حتى دفع إليه أبوه معلماً يلقنه القراءة والكتابة، فحفظ بعضاً من القرآن الكريم، وأخذ بالعلوم العصرية، وبمبادئ اللغة الإنكليزية قبل أن يتجاوز العاشرة من عمره. ليدخل بعد ذلك مدرسة الأمريكان في حارة العمروسية، وينتقل تالياً في عام 1879 إلى مدرسة الحكمة في بيروت، ثم إلى المدرسة السلطانية؛ وخلال هذه الفترة لم يتوانَ أرسلان عن تعلم اللغة الفرنسية وإتقانها، إلى جانب اللغة العربية شعرها ونثرها، ولم تمض سنوات قليلة حتى بدأ شكيب أرسلان في قرض الشعر ونظمه.
في المدرسة السلطانية حضر شكيب أرسلان درس مجلة الأحكام العدلية على يدي المفكر محمد عبده، فأحبه شكيب، ولازم مجلسه، وكان له أثر كبير في حياته، وفي تكوينه وتوجيهيه، كما أنه رأى في دعوته إلى الإصلاح طريقاً يسلكها، ونهجاً يترسمه، وشعاراً يرمي إليه.
الرحالة: إن المتتبع لسيرة الأمير شكيب أرسلان يدهشه الكم الكبير من الرحلات التي جال بها أرجاء العالم شرقاً وغرباً؛ لا ينفصل في شخصه رجل السياسية عن رجل الفكر والثقافة.
كان أول عهد أرسلان بالوظائف العامة هي عند وفاة والده في أواخر العام 1887 حين ولي مديرية الشويفات، وبقي فيها إلى حين بدأت رحلاته إلى مصر في طريقه إلى الأستانة حيث لازم الشيخ محمد عبده وحلقته.
انتخب نائباً عن حوران في البرلمان العثماني في العام 1913، ثم قصد في العام نفسه المدينة المنورة لتأسيس (دار الفنون)، وبقي فيها ما يقارب الشهرين والنصف.
سافر إلى برلين في العام 1917 في مهمة رسمية استطلاعية، وزار عدداً من مدنها، ليسافر بعدها إلى سويسرا ثم يعود إلى ألمانيا في العام 1920، ويساهم في تأسيس (النادي الشرقي) في برلين. عاد إلى سويسرا في العام 1925 بعد أن انتدبه المؤتمر السوري الفلسطيني مع آخرين لمتابعة القضية السورية لدى عصبة الأمم المتحدة، وخلال تلك الفترة لم يخلُ وفد عربي يطالب بحقوق العرب، من الأمير شكيب أرسلان كأحد أبرز أعضائه، أو كبار مستشاريه.
أنشأ في العام 1930 (مجلة الأمة العربية)، وتم في العام 1938 تعيينه بموجب مرسوم رئاسي كرئيس للمجمع العلمي العربي في دمشق، فسافر إلى مصر في طريقه إلى سورية، ثم عدل عن متابعة السفر إلى دمشق؛ بعدما نقضت فرنسا وعودها حول استقلال سورية، وأتت بتاج الدين الحسيني رئيساً للجمهورية.
إنتاجه الفكري والأدبي: نظراً لتعدد المجالات التي خاض فيها شكيب أرسلان، والمراتب الأدبية والسياسية التي تبوأها، فضلاً عن الوفود الدبلوماسية التي ترأسها أو كان عضواً فيها، فهناك مئات المقالات والدراسات والرسائل الأدبية مما جادت بها قريحته، وغير ذلك الكثير من الكتب المطبوعة والمخطوطات.
أصدر شكيب أرسلان ديوانه (الباكورة) في عام 1887 وهو في السابعة عشرة من عمره، كما استطاع في العام 1893 أن يحقق (الدرة اليتيمة) لابن المقفع، وحقق كذلك المختار من رسائل أبي إسحاق، ثم دفع به قطار الحياة العامة إلى الكتابة في الشأن السياسي، ولم يعد إلى التأليف إلا بعد عشرين عاماً ونيف، فكتب تعليقه على كتاب لوثر ستودارد (حاضر العالم الإسلامي) وكان ذلك في العام 1925، ثم كتب تعليقه الثاني على تاريخ ابن خلدون في العام 1936، وفي العام 1939 ألف شكيب أرسلان (الحلل السندسية في الأخبار والآثار الأندلسية) وكتب كتابين عن صداقته مع الشاعر أحمد شوقي، والمفكر رشيد رضا، إلى جانب إصدار عدد آخر من الكتب ما بين شرح، وتأليف، وتحقيق.
العودة إلى الوطن: عاد شكيب أرسلان إلى وطنه، ورأى بيروت بعد الهجرة الطويلة في الثلاثين من تشرين الأول عام 1946، وسعد بمشاهدة وطنه حراً مستقلاً طليقاً من أغلال الاحتلال والاستبداد. غير أن المرض، وثقل الثمانين عاماً تحالفا على الأمير، فلم تطل مقاومته، ووافته المنية في التاسع من كانون الأول عام 1946.
التاريخ: الثلاثاء20-8-2019
رقم العدد : 17051