الملحق الثقافي:حاتم حميد محسن :
هذا الكتاب هو نسخة منقحة لست محاضرات للبروفيسور النيوزيلندي جيريمي والدرون ألقيت في شباط عام 2015. موضوع الكاتب هو مساواة الإنسان، وبالذات، الأسس الفلسفية لـ «المساواة الأساسية» التي تشترك بها كل المخلوقات البشرية والتي تمنحهم قيمة أخلاقية متساوية. هذا الموضوع ذو أهمية كبيرة للمجتمع المدني والسياسة والقانون، لكنه مع ذلك وكما يشير الكاتب (ص10-11) لم ينل إلا قدراً ضئيلاً من الاهتمام العلمي.
في كتابه الثري هذا، يعلن الكاتب أنه ليس من السهل تحديد ما يجعل الناس متساوين. الاختلافات بين الناس – في الشكل، القدرة، الدخل والسلطة، المكانة (ص4-5) هي واسعة الانتشار حتى في المجتمعات الحديثة التي تدّعي محاربة التحيزات والتمييز العنصري.
في إعلان الاستقلال الأمريكي، كتب توماس جيفرسون أن اقتراح «كل الناس خُلقوا متساوين» هو شيء بديهي. ومع أن الكتب الدينية تقول إن كل الناس ينحدرون من آدم وحواء، لكن الادّعاء بالمساواة الإنسانية ظل غامضاً ولم يكن واضحاً قبل القرن السابع عشر؛ حيث جرت ولأول مرة معالجة الموضوع من جانب توماس هوبس، ثم التفكير العميق به من جانب جون لوك من أجل خلق صيغة للّيبرالية الكلاسيكية، ولاحقاً أُعيد تفسير الموضوع وتوضيحه بواسطة عدد من المفكرين الذين يأتي على رأسهم عمانوئيل كانط.
المساواة الدائمة
الكاتب ومعه العديد من الباحثين يتعاملون مع سؤال المساواة ضمن تقاليد الكلاسيكية الليبرالية. هو لا يبدي اهتماماً في توسيع النقاش ليشمل الاتجاهات اللاّغربية لفكرة المساواة، ولا يعالج الانتقادات إلى الليبرالية كتلك التي طوّرها كارل ماركس والاشتراكيون الآخرون والنسوية وما بعد البنيوية ودراسات ما بعد الكولونيالية وغيرها. مفكر من طراز والدرون في القرن الواحد والعشرين يجب على الأقل أن يعترف بالمحدوديات المتأصلة في مركزيته الأوروبية وحماسه في احتضان الرؤية الليبرالية.
الكاتب، وضمن ما اختاره من نصوص، قام فعلاً بعمل وصفي وتحليلي مثير للإعجاب. هو يبدأ بتحديد عنصرين متميزين يأتيان مجتمعين ليشكّلا المساواة الأساسية. الأول هو يسميه «المساواة الدائمة» continuous equality، وحيث لا وجود هناك «للفروقات والاختلافات الأخلاقية بين الناس كتلك القائمة بين الناس والحيوانات الأخرى»(30). الثاني «المساواة المتميزة» distinctive equality، وفيها يكون الإنسان مساوياً للآخر على أساس أنه حقاً يتميز عن الحيوانات الأخرى»(31). يخصص والدرون أغلبية المحاضرة الأولى للدفاع عن المساواة المستمرة بالضد من جدال هاستنك راشدل، الذي يدافع عن «العنصرية الفلسفية»(20-29).
الكاتب يدرك بأن القلائل بين قرائه يتعاطفون مع موقف راشدل. مع ذلك، هو يعرض موقفاً منهجياً لا يرفض فقط «اللااستمرارية» في المساواة بين الناس، وإنما أيضاً يبني مخططاً أولياً في فهمه للطبيعة الإنسانية. الناس كما يرى، هم ذو خصوصية ومتساوون في الخصوصية، لأنهم يحوزون على «جهاز للفهم والحساسية»، «لا يختلف كثيراً من فرد إلى آخر ومن سياق اجتماعي إلى آخر» ويستلزم المقدرة على الاستماع إلى الناس وفهم لمحات الحب والأمل والطموح والتوقعات، بالإضافة إلى الألم والخسارة والخوف والحرمان والهزيمة والإذلال والدمار، وبطريقة تجعل هناك معنى لاولئك الذين يعيشونها»(33-34).
وما إذا كان هذا كافياً للدفاع عن المساواة المتميزة، يبقى سؤالاً ينتظر الإجابة عليه في المحاضرة (6). محاضرة (2) تضع الدعامات لفهم والدن للمساواة الأساسية. أولاً، هو يعالج التمييز الوصفي/ الإلزامي. هل المساواة الإنسانية هي حقيقة تجريبية حول طبيعة الإنسان، بحيث يمكن استخدامها كأساس للتفكير الأخلاقي؟ أم أنها مبدأ أخلاقي جرى تبنّيه بالعرف؟ يميل والدرون نحو الرؤية بأن «لا وجود هناك لمضامين حقيقية تفرض الإيمان بالمساواة الإنسانية»(57) طالما «لا شيء هناك في إنسانيتنا المشتركة يفرض أي مبدأ أخلاقي»(59).
بدلاً من ذلك، «نحن نأتي للنقاش مع إيماننا بأننا المساوي للآخر(65). في نفس الوقت، هو يصر على أن الفكرة الإلزامية للمساواة يجب أن تعتمد على الحقائق حول الكائنات الإنسانية، بحيث توضح لماذا «مبادئنا بالمساواة الأساسية تنطبق على الناس (او ربما كل المخلوقات العقلانية) ولكن ليس على إبريق الشاي أو الضفدع الصغير»(58). ثانياً، هو منشغل بـ «أطروحة متكررة»(95) تؤمن بأن الأخلاق قد لا تعني ضرورة التعامل مع كل الناس باهتمام واحترام.
في النهاية يرفض والدرون هذا الخيار، مستنتجاً بان «المساواة الإنسانية هي على الأقل توجيه أخلاقي ضروري»(82).
في المحاضرتين 3 و 4 يعرض الكاتب مخططه الذي ينطوي على تحديد قدرات أو سمات إنسانية خاصة تشكل أساس المساواة. هذه تتضمن العقلانية، المقدرة الأخلاقية، الرغبة الحرة، المقدرة على الحب. حقيقة أن شخصاً ما أكثر عقلانية من الآخر هو غير هام قياساً بما إذا كان الاثنان متساويين أخلاقياً، لكن حقيقة أن الاثنين يشتركان بخاصية الكائن العقلاني هي هامة جداً. وبنفس الوقت، يكون المقدار الذي فيه للفرد سمة خاصة أو مقدرة ربما، هام لأغراض أخلاقية أخرى. الاستخدام الأخلاقي التام للمساواة يتطلب مقدرة يسميها الكاتب بـ scintillation، والتي هي «الطريقة التي يتحرك بها انتباهنا إلى الأمام والخلف بين نطاق ملائم من الخصائص.. وخصوصية مظهرها في كل حالة فردية»(157). في تلك الطريقة، يمكن التعامل مع الناس كمتساوين، وبعمل كهذا «نحن نحترم المقدرات التي يمتلكونها والتي ستقود ممارستها حتماً إلى اختلافات في احترام الفرد»(168).
المحاضرة الخامسة تبتعد عن النقاش الرئيسي لتركز على العلاقة بين الرؤية الليبرالية الكلاسيكية والرؤية الثيولوجية. هو يؤكد، مقتفياً أثر كانط، بأنه «لا سلطة ثيولوجية يمكنها أن تعطي أساساً للأفكار الأخلاقية أو الحقوق الأخلاقية»(181).
لسوء الحظ، هو لا يبدو يدرك كم هو يثق بالرؤية الثيولوجية ليدافع عن مبدأ المساواة المتميزة في المحاضرة (6). هنا يجادل الكاتب بأن رؤيته في المساواة يجب أن تتضمن كل الكائنات الإنسانية بمن فيهم أولئك المعاقين جداً لدرجة يفتقرون فيها لبعض أو كل السمات والقدرات التي تقوم عليها المساواة الأساسية، بينما في نفس الوقت يستبعد كل الحيوانات غير الإنسانية. هو استخدم هذه الحركة الذكية باللجوء إلى المفهوم التيليلوجي للطبيعة (237): الكائنات الإنسانية التي تفتقر إلى المقدرة على التفكير لأجل عمل خيارات أخلاقية، إنما تستحق مستوى الاحترام الإنساني، لأن أفراد المخلوقات الذين ينتمون إليهم لديهم إمكانية تطوير تلك القدرات، بينما حتى أذكى الحيوانات اللاإنسانية لا يمكنها أبداً تطوير هذه الإمكانية. جماعات حقوق الحيوان تقف بالضد من هذه الفكرة.
المساواة مع الآخر
إن فكرة، المساواة مع الآخر هي عقيدة موجودة سلفاً، لكنها مع ذلك لاتزال ذات قيمة استطلاعية واسعة النطاق. يعرض المؤلف جداله بوضوح استثنائي خال من الرطانة. سيكون الكتاب سهل الفهم بالنسبة إلى القرّاء المعتادين على الحجج الفلسفية. غير أن المؤلف يسعى ليكون مفهوماً للجمهور العام، وهو بهذا لم ينجح كثيراً. هو عادة يعتذر في التعامل مع المسائل الفلسفية والمنطقية التي هي أكثر ملاءمة لفهم المتخصصين بدلاً من الناس العاديين»(41). لكنه يندفع في حجج معقدة من دون اعتبار لعدم إمكانية غير المتخصصين في مسايرة الموضوع. هو يستخدم عبارات غير ضرورية مثل supervenienc باعتبارها «مفهوماً تقنياً يُستعمل في الفلسفة»(61) لكنه لاحقاً يستخدم عبارات أخرى ومن دون تعليق مثل «epiphenomenal»(63) و «تيليلوجي»(237) والتي هي غير مألوفة لمعظم القرّاء غير المتخصصين.
والمشكلة الاكبر لدى الكاتب أنه يستخدم القليل من الأمثلة لتوضيح فكرته، مقارنة بالكتب التي تضع القارئ العام نصب أعينها.
ورغم اهمية الرسالة التي يطرحها المؤلف، إلا أن هذا الكتاب لم يحقق أي تقدم في عقيدة المساواة أكثر مما فعل كانط قبل قرون عندما ميز بين الكائن الإنساني كـ «جزء من نظام الطبيعة» ذي قيمة عادية والكائن الإنساني «كفرد ممجّد فوق أي ثمن»(100). ولكن لاتزال مضامين الرؤية الليبرالية للمساواة كما يوضحها والدرون هامة جداً وتستحق الانتباه. إنها تأمر، على سبيل المثال، أن المرء لا يجب أن يمنح أهمية أكبر لأخيه (بالمعنى الأخلاقي) أكثر من عدو قاس يُعامل باعتباره حائزاً على اعتبار وقيمة متساوية أو كما ترى القديسة تيريزا بأن الكلاب الأكثر وفاءً يُفترض أن تكون أقل قيمة أخلاقية من مغتصب الأطفال. هل هذه الرؤية مقنعة؟ الكاتب يجيب نعم، ولكن فقط عندما نرغب أن تكون كذلك.
……………
كتاب جيرمي والدرون (المساواة مع الآخر: أساس المساواة الإنسانية)، صدر عن مطبوعات Belknap عام 2017 في 280 صفحة.
التاريخ: الثلاثاء24-9-2019
رقم العدد : 966