ثورة أون لاين- هفاف ميهوب:
وحدهم رجالُ الحقِّ من يملكون القدرة على جعل جراحهم، تنطق بنزيفٍ شريف، يتحدى أعداء وطنه ويقاتلُ رغم ألمه.. وحدهم من يملكون القدرة على بلسمة هذه الجراح ببطولاتهم، وعلى توثيق حكاياها بمفرداتِ دمائهم:
“في مثل هذا اليوم، والوقت تحديداً منتصف النهار، كنّا نكتبُ تاريخ مكانٍ وزمانٍ لن يُنسى!.
اجتمعنا في تلك الغرفة، ننتظر عودة الدبابة من التغطية النارية، كي ندخل بعدها .. على تلك الدبابة قمت بتثبيت كاميرا “gopro” .. لم أكن أعلم أن تلك الكاميرا الصغيرة ستوثِّق تاريخاً سيبقى ذكرى صعبة لِما تبقى من حياتي .
قبل عودة الدبابة بلحظات، تذكّرت أنني كنت مبتسماً ومتفائلاً بنصرٍ قريب.. اقترب هديرها منّا، فنهضت بسرعة لاستقبال أبطالها. خرجت مسرعاً وكان بيني وبينها عشرة أمتارٍ فقط .
في هذه اللحظة !!.. توقفتْ الحياة، ولم أعدْ أذكر أيّ شيء. كنت أمشي في نفقٍ مظلم.. مشيت طويلاً فوجدت في نهايته ستاراً أبيضاً، أزحته فتوهَّج نوراً مشعاً أسعدني من بعد عنائي. حلمت بذلك، ثم استيقظت مبتسماً.
“كيف حالك يا وسيم”؟..
“أنا بخير وسوف أعود للمعركة..” هذا الجواب كان يرافقني بعد كلِّ إصابةٍ. لكن، هذه المرة أجبت عنه بفطرةِ المقاتل المخلص لقضيته ووطنه. لم أكن أعرف أن خسارتي هذه المرة كبيرة..”.
إنها ثقافة الجرح المقاتل، ومنطق نزيفه الشريف.. جرحُ المقاتل والناشط الإعلامي “وسيم عيسى”، بل الشهيد الحي الذي مثلما اعتدنا على الإنصات لمواكباته الإعلامية، اعتدنا على الإنصات لمنطقِ جراحه وحكاياه النضالية.
الحكايا التي سرد الكثير منها، والتي سيبقى يسردها كما فعل في ذكرى عيد الشهداء.. الذكرى التي نقرأ مما رواهُ عنها، وبمنطقِ نزيفه المُقدَّسِ الدماء:
“علمت لاحقاً بما حصل لي، لكني خجلت أن أبدو ضعيفاً فـ “نحن لا نُهزم”.. بقيت الابتسامة رفيقة جرحي، وعندما وصلتني كاميرتي الصغيرة المثبتة على الدبابة وراجعت محتواها، كانت قد وثَّقت لحظات الإصابة. لقد أُصبت لكنني بقيت قوياً.. لم أتألم، وملامح وجهي لم تتغير ..
بُترت أقدامي وجلست أتأمل ما حصل.. زحفتُ فوق دمائي أحاول أن أنهض!. لم أصدق ما رأيت.. هل هذا أنا؟!. كيف أفسِّر ما جرى؟.. أنا لا أذكر، لكنَّ الكاميرا وثَّقت.. كنت قد فارقتْ الوعي ولكنني أتحرَّك.
أي شعور ينتابني؟.. الفخر أم الصدمة أم الألم؟!. كلّها مجتمعة صنعت مني مقاتل عنيد، خياره الوحيد أن يصمد، وأن لا يفقد الأمل بعد كل ما حصل .
السادس من أيار، ذكرى عيد أطهر وأشرف الناس.. “الشهداء الكرام” ولقد أصبح من اليوم وصاعداً تاريخ ميلادي . أنا متفائلٌ. إنه خياري الوحيد والأملُ كبيرٌ، بسلامٍ ومستقبلٍ سينصفنا نحن “جيل الحرب” الذي ضحَّى”..
لاشك أنها مفرداتٌ تنغرس عميقاً في نفسِ كل من تابعَ باطمئنانٍ أخبار المعارك التي كان “عيسى” يبشرنا فيها بالنصرِ العظيم. مفرداتٌ لثقافةٍ أرادها تعلِّمُ كلّ من في العالمِ ولا يعلم أو لا يريد أن يعلمُ أو يتعامى عما عليه أن يعلمه، بأن ثقافة الجرح هي صوتُ الحقِّ المبين:
“أن تغرس في الأرض التي تحب قطعة غالية من جسدك وروحك، وتلمسُ حدود الموت ومن ثم تعود مطمئناً، قانعاً، راضياً، مؤمناً أكثر بعدالة قضيتك، ثابتاً على مبادئك، فأنت على طريق الحق”.
هذا هو المقاتلُ السوري-الشهيدُ الحي.. الناشط الإعلامي-المتفائل الأبي.. هذا هو كما عرفناه ووثَّقه جرحه وحرفه.. الجرح وثقافته، والحرفُ وكرامته..
هو تعريفُ الوطن لهذا المقاتل المُعرّف بسوريَّته، أما ما عرَّف به نفسه، وأكَّد عشقه لانتمائه وهويته:
“أنا شاب سوري مغترب “سابقاً”.. استشعرت الأخطار المحدقة بالوطن كما تذوقت مرارة الغربة، وعندما سمعت نفير الواجب، لبيت النداء دون تردد، وحملت السلاح قبل العدسة، وخضتُ مع إخوة لي ورفاق درب، أشرس معارك الدفاع عن الوطن.. فقدت منهم أحبة أعزاء، ولا زلت أتلمس دروبهم إلى جانب الصامدين على الثغور، أدركت خطر الحرب الإعلامية وعليها قررت حمل عدستي إلى جانب سلاحي…”.