“بكاء الحقل الأخير” قصص تروي حكاية منفى بلغة المطر

الثورة – أحمد صلال- باريس:
في زمنٍ تتكاثر فيه الأصوات وتبهت فيه النبرة الأصيلة، تأتي مجموعة “بكاء الحقل الأخير” للكاتب والصحفي السوري عبد الكريم البليخ لتُذكّرنا بأن الأدب، في جوهره، فعل مقاومة، وأن الكتابة لا تُزهر إلا حين تمسّ جذر الإنسان في أرضه، وتستدعي ما غاب منه وما نُفي.

هذه الباكورة القصصية الصادرة عن دار سامح للنشر في السويد، تتوزع على اثنتين وثلاثين قصة، تحيك من الطين والمطر والحنين نسيجاً إنسانياً يُعيد تعريف العلاقة بين الأرض والمنفى، وبين الحنين والكرامة.

من العنوان، يضعنا الكاتب أمام استعارة مكثفة ومشحونة بالدلالة: “بكاء الحقل الأخير”. البكاء هنا ليس مجازاً عن الحزن فقط، بل تعبير عن خللٍ في العلاقة بين الإنسان ومصدر وجوده الأول ـ الأرض.

وكأن الحقل الأخير هو آخر ما تبقّى من الذاكرة الجمعية، وآخر خيط يربط الكائن بماضيه، في عالمٍ يتآكل فيه المعنى وتبهت فيه القيم.

تُحاكي قصص البليخ الأرض لا بوصفها ملكية زراعية، بل هوية أخلاقية ووجودية.. إنها الأرض التي تُنبت الكرامة، وتحفظ للإنسان ظله حين تغرب عنه الشمس.

من خلالها يكتب البليخ سيرة ناسه البسطاء، الذين جعلوا من الطيبة شكلاً من البطولة، ومن الصبر فعلاً من أفعال المقاومة.

إنهم أولئك الذين يقاومون بنقاء النوايا أكثر مما يقاومون بالشعارات، ويصمدون لأنهم ببساطة لا يعرفون طريقاً آخر للحياة سوى التشبث بجذورهم.

في عالم البليخ، لا تُختزل الغربة في بعدها الجغرافي، بل تتجاوزها إلى كونها تجربة وجودية تُعيد صياغة الكائن وتكشف هشاشته وقوّته في آن، فهو يرى أن الغربة لا تقتل، بل تصهر الروح وتخلق الكاتب من جديد.

في إحدى مقابلاته يقول: “الغربة لا تمنحك امتياز الكتابة فقط، بل تفرضها عليك، تصبح الكلمة بيتك الأخير، ولغتك الأم طوق نجاتك في بلاد لا تفهمك”.

هذا التصور يجعل من الكتابة في “بكاء الحقل الأخير” ليست استعادةً لما فُقد فحسب، بل هي خلق موازٍ له، محاولةً، لإعادة ترتيب العالم على نحوٍ يليق بإنسانٍ فقد مكانه لكنه لم يفقد صوته.

فكل قصة في المجموعة هي عودة مؤقتة إلى الوطن ـ وطنٍ يتشكل من الذاكرة واللغة والحنين، لا من الخرائط.

يمتلك البليخ حسّاً لغوياً مدهشاً يمزج بين الشاعرية والدقة، بين البساطة التي تُقرب المعنى والعمق الذي يمنحه بعداً إنسانياً.

لغته تفيض بالصور من دون أن تغرق فيها، وتستعير من الشعر إيقاعه الداخلي لا زخرفه اللفظي.

في نصوصه، كل كلمة تؤدي وظيفة دلالية ونفسية في آن واحد.

اللغة عنده ليست زينة، بل أداة كشف، وهي تتشكّل من نبض الأرض نفسها: رائحة التراب، صوت المطر، صمت الحقول، وقع الأقدام في الطين.

هذا الحس الحسيّ المرهف يمنح القصص ملمساً واقعياً يجعل القارئ يعيش المشهد لا يقرؤه فقط.

وفي الوقت ذاته، يحتفظ النص بعمق رمزي يفتح أبوابه أمام التأويل، كما في قصة “بكاء الحقل الأخير”، حيث يتحول الفلاح الراحل إلى أعشابٍ عطرةٍ تنبت من قبره.. إنها استعارة للحياة التي لا تموت، وللجذر الذي يواصل نموّه رغم انقطاع الساق.

ينتمي أسلوب البليخ إلى الواقعية الشاعرية، تلك التي تُبقي النصّ متصلاً بالواقع من جهة، وتمنحه بعداً تأملياً من جهة أخرى.

إنه لا يهرب من الألم بل يُواجهه، ولا يختبئ خلف البلاغة بل يوظفها لتكثيف التجربة، في قصصه لا نجد بطولة صاخبة، بل بطولة الوداعة والمثابرة.

شخصياته أفرادٌ عاديون: فلاحون، عمّال، نساء مهمّشات، مهاجرون، لكنهم يحملون داخلهم حكمة الأرض ومرارتها.

تبدو القصص كأنها تُروى بصوتٍ داخلي واحد: صوت الإنسان المقموع الذي يستعيد وجوده عبر الحكي.

ومن هنا تأتي قيمة العمل: إنه يجعل من القصّة القصيرة أداة استعادة، لا مجرد سرد.

ونقرأ في قصة “بكاء الحقل الأخير”:(غَمر المطرُ القبرَ بعد أسبوع، خرجت أعشابٌ صغيرةٌ ذاتُ رائحةٍ غريبة، مزيجٌ من الحنطة والريحان وشذا التوت.. صبيان القرية قالوا: إنّ العمّ حسين عاد ليحرث بطريقته الخاصة جذوراً تنبت من تحت حجارته وتشقُّ طريقها إلى نورٍ لا تملكه المحاكم، وبعد مرور موسمٍ، لاحظ المختار أنّ سور الأرض المصادَرة تهدّمَ عند أطرافه، وصار الناس يدخلون بلا إذنٍ لجمع الأعشاب العطرية.

في ليلٍ صيفيٍّ، كتب المختارُ تقريراً رسميّاً يُطالب باستصلاح الأرض لأغراضٍ عامّة؛ لكن التقرير رُفِض لأنّ مالكها الجديد ـ الذي حصل عليها بقرارٍ إداريّ ـ لم يشأ التفريط في “استثماره”.

نفَرَتِ القرية بأكملها من حوله، وظلَّ اسمُ العمّ حسين يُتلى في دعاء المطر: “اللهم اسقِ أرضَ حسين وأرواحنا”).

كما نقرأ في قصة “أبو عواد”، آخر قصص المجموعة، ما أورثه إياه شيخ الصحافة الذي اكتسب من علاقته به طوال ثلاثين عاماً دروساً لا تنسى.

“كن وفيّاً للكلمة حتى لو خانك العالم، فالخيانة سَمْتُه، أما الأمانة فهي خيارك الوحيد لتشعر أنك حيٌ في حضرة الحبر”. أي إنه حتى لو كان العالم مليئاً بالخيانة والزيف، تمسّك بصدق الكلمة التي تكتبها، لأنها مرآة روحك ودليل حياتك الحقيقية. فالناس قد يخونون، لكن الكاتب لا يملك إلا أمانته مع الكلمة ـ بها فقط يبقى حيّاً ومخلصاً لذاته.

في حواره مع الثورة، يوضح البليخ أن الغربة كانت محرّضاً لا يرحم على الكتابة، وأنها “ضرورة تشبه الخبز والماء”. فحين تتعذر العودة إلى الوطن، تصبح الكتابة عودة بديلة، ومقاومة ناعمة ضدّ المحو. وهنا يكمن جوهر تجربته: أن الأدب ليس تعويضاً عن الواقع بل إعادة تخليقه جمالياً وأخلاقياً. في هذا السياق، يستعيد البليخ تقاليد الكتابة الواقعية العربية، لكنه يمنحها نفساً شخصياً جديداً. فهو يكتب عن الناس لا بوصفهم ضحايا بل كائنات قادرة على الاستمرار رغم كل ما يُسحق حولها. وبذلك يتحول النصّ إلى مساحة للتطهير، وميدان للمساءلة الأخلاقية والاجتماعية معاً.

ينتمي عبد الكريم البليخ إلى جيلٍ من الكتّاب الذين عبروا من الصحافة إلى الأدب دون أن يتخلّوا عن حسّهم الواقعي، في مسيرته الممتدة منذ عام 1993، فقد كتب في مجلات وصحف عربية عديدة، من الدوحة إلى الشرق، قبل أن يستقر في فيينا ويؤسس هناك “المركز العربي للإعلام والثقافة” عام 2024. تُظهر تجربته أن الصحافة لم تكن بالنسبة إليه مهنة فقط، بل مدرسة للرؤية والملاحظة والدقّة. فقد صقلت لغته ومنحته تلك القدرة على التقاط التفاصيل التي تصنع من المشهد العابر حدثاً وجودياً. وربما لهذا تبدو قصصه مشغولة بما هو صغير وعميق في آن، إذ يلتقط من اليوميّ ما يتجاوز اللحظة إلى المعنى. تُقرأ المجموعة في ضوء ما يسميه الكاتب “بزمنٍ موازٍ” ـ زمن الغربة التي لا تُلغي الانتماء، بل تجعله أكثر وضوحاً وألماً. يقول: “بعد أكثر من ثلاث عشرة سنة في المهجر، تعلّمت كيف أمارس مهنتي كهواية، وهوايتي كهويّة. وكيف أعيش في الشتات من دون أن أفقد الإيمان بالمركز الأول: الرّقة”.

آخر الأخبار
الرئيس الشرع يلتقي وزير الخارجية السعودي في الرياض بلدية المضابع.. معاناة مع مياه الشرب والصرف الصحي ولا حلول معاون وزير التربية: التزام الحكومة بضمان حق التعليم لكل طفل مدارس ريف إدلب تواصل مسيرة إعادة التأهيل تكاليف العلاج المرتفعة تدفع المرضى إلى الطب البديل من الرياض.. هل ترسم سوريا خارطتها الاقتصادية في "دافوس الصحراء"؟ الشهر الوردي.. من التوعية إلى الشفاء المتسولون في دمشق.. من شتات الأرصفة إلى مراكز الأمل سوريا في مبادرة مستقبل الاستثمار.. انفتاح اقتصادي وترسيخ للشراكات الإقليمية حكم إعدام بحق شاب سوري يثير الجدل في العراق و"الخارجية" تتحرك واشنطن تقدّم مساعدات عاجلة للمجتمعات المتضررة في جنوب سوريا الرئيس الشرع يصل الرياض للمشاركة في مؤتمر مستقبل الاستثمار ولقاء الأمير محمد بن سلمان السعودية تطلق صندوق "إيلاف" للاستثمار في سوريا برأسمال ضخم أردوغان: استقرار سوريا ركيزة لأمن المنطقة أعمال ترميم مستوصف حيش تعيد الأمل للعائدين إلى ريف إدلب "بمستقبل الاستثمار والابتكار" سوريا تفتح أبوابها للفرص والازدهار التحوّل من الإغاثة إلى الاستثمار صناعة رغيف الخبز بدرعا.. المواطنون يشتكون والمسؤولون يُطَمْئنون! قرار منع التصرف على صحائف أكثر من/180/ عقاراً في اللاذقية أدخل الحابلَ بالنابلِ تراجع إنتاج الحمضيات في اللاذقية يهدد بكارثة اقتصادية وزراعية