أفلاطون ونيتشه أوجه التشابه والاختلاف في نقد الفن

 

الملحق الثقافي:حاتم حميد محسن:

إن المشروع الفلسفي لأفلاطون ونيتشه هما على طرفي نقيض كما هو في أي من المشاريع الفلسفية المتضادة. هذا الانطباع له ما يبرره. أفلاطون هو فيلسوف العالم الآخر، جادل بأن حواسنا لا تكشف أي حقائق ثمينة أو أساسية. نيتشه هو المضاد للفلسفة الأفلاطونية، منكراً ورافضاً كل ما هو خالد وتام ومتجاوز. غير أن هناك بعض التشابه المتجاهل بين أفلاطون ونيتشه في أفكارهما الجمالية، يبيّن أنه لديهما بعض الأرضية المشتركة غير المتوقعة.
هما كلاهما يهاجمان أصنافاً واسعة من الفن، جادلا بأن مثل هذا الفن مثير للإشكال اجتماعياً. المشكلة لدى كل منهما هي أن الفن يمكن أن يؤثر سلبياً على تطور الأنواع العليا من الناس.
ولكن ربما هناك من يقول «إننا نتذكر موقف أفلاطون المضاد للفن، ولكن ألم يكن نيتشه مؤيداً للفن، حتى إنه في أوقات معينة وضعه فوق العلم؟».
نعم. نيتشه، طوال عمله يشجع الفن كواحد من أهم النشاطات الإنسانية، وإن بعض الناس الذين اُعجب بهم كثيراً هم من الفنانين. غير أن علاقات نيتشه مع الفن هي أكثر تعقيداً من مجرد القول نعم أو لا. هذا يبدو حتى أثناء لحظة خاطفة لكتاباته الناقدة لحياة وموسيقى صديقه السابق ريتشارد واغنر (Richard Wagner). الهجوم الأخير لنيتشه على واغنر هو جزء من تفسير واسع لطبيعة وقيمة الفن وهو ما يعطي معياراً للتمييز بين الفن الثمين وغير الثمين. وكما في فلسفة أفلاطون الجمالية، هذه المعايير تتصل وبعمق بالاهتمامات الميتافيزيقية والأخلاقية الأوسع. سوف ننظر بالكيفية التي ينظر بها كل من الفيلسوفين إلى الفن وما هي أوجه التشابه والاختلاف بينهما في سياق فلسفتهما الواسعة.
نيتشه وأفلاطون ضد الفن
معظم جدال نيتشه الذي سوف نستخدمه يتخذ شكله الواضح في القول رقم 370 من (العلم المرح). ونفس القول مع تعديل بسيط هو أيضاً في نيتشه المضاد لواغنر. الجدال كان موجهاً ضد الفن الرومانسي والمسيحي، وفي جوانب معينة، إنه يشبه بعض حجج أفلاطون ضد الشعر في حوار أيون (Ion) وفي (الجمهورية).
يرى نيتشه أن جميع الفن يساعد في تخفيف المعاناة الناتجة إما عن عدم كفاية الحياة underabundance (عدم كفاية الفن والموسيقى) أو من فائض الحياة overabundance . إن وفرة أو فائض الفن هو محايد اجتماعياً أو مفيد، لكن عدم كفاية الفن عادة ما تتجلى في إحدى طريقتين سلبيتين. هذا الشكل من الفن إما يأخذ شكل انتقام مدمر من العالم، أو يجعل عدم الكفاية مثالاً. كلا هذين التأثيرين يكبحان إنتاج وازدهار الناس العظماء، والذي هو الهدف النهائي لنيتشه.
جدال أفلاطون هو معاكس، لكنه يصل إلى فكرة أن الفن ممتع لكنه مضلل وبالتالي خطير . في حوار (أيون) هو يرى أن الفلاسفة وليس الشعراء يجب أن يكونوا معلمي الإغريق، طالما أن عبقرية الشاعر تأتي من الجنون الموحى دينياً بدلاً من أن تأتي من المعرفة، والناس العارفون يجب أن يكونوا هم المعلمين. بكلمة أخرى، الشاعر الموحى والجاهل يجب أن يصمت ولا يحاول تعليم أي شخص آخر من خلال الإنشاد. في (الجمهورية) هو يجادل أن الشعر يجب ألا يُسمح له في المجتمع المثالي، لأنه يحفز الناس على محاولة تبنّي أدوار اجتماعية لا تتناسب معهم، وهذا يؤدي إلى عدم انسجام اجتماعي.
جدال نيتشه
معظم الأفكار الهامة والشهيرة لنيتشه وُجدت أولاً في (العلم المرح). الأقسام الأربعة الأولى من هذا العمل كُتبت في العام 1881-1882 كنضج لعمله السابق (الفجر) وتشكل بدرجة ما الازدهار الأول في أفكاره التي سوف يطورها في أعماله اللاحقة، بما في ذلك الرغبة بالقوة، موت الإله، العودة الأبدية، إعادة تقييم كل القيم، وطبيعة وقيمة عظمة الإنسان. القسم الأخير كُتب لاحقاً، نُشر في الطبعة الثانية عام 1887، ويحتوي على أفكار حتى أكثر من أفكار نيتشه الناضجة. الأقسام المبكرة تحتوي على سلسلة من الأقوال أو الحكم aphorisms)) خاصة في الفن (76-107)، لكن القول )370( جاء من القسم الأخير، وبهذا فهو يأتي من ذهن نيتشه فقط قبل سنوات قليلة من انهياره نحو الجنون، وبعد انفصاله عن واغنر (وربما كما يُقال، بعد وفاة واغنر عام 1883).
هذا هو جدال نيتشه ضد الفن الرومانسي والمسيحي، المرتكز على القول )370( وعدد آخر من الأقوال:
1- كل الفن يُنتج في خدمة الحياة، للتخفيف عن بعض أنواع المعاناة أو المرض.
2- الفن – كدواء – يمكنه علاج إما الوفرة المفرطة في الحياة overabundance والتي يجب تصريفها، أو نقص الحياة underabundance والتي يجب أن تُستكمل.
3- الفن الذي هو علاج لنقص الحياة عادة يجسد نفسه كانتقام من الحياة: إما كتدمير انتقامي للعالم الذي هو مصدر معاناة الفنان، أو في تخليد معاناة الفنان كمُثل.
4- استهلاك أي نوع من الفن الناقص الحياة له تأثيراته على المستهلك، بالذات في منع ازدهار الأرواح العظيمة.
5- الأرواح العظيمة ثمينة، لذا عندما يمنعها شيء ما من الازدهار، فإن ذلك الشيء يجب ألا يُنتج.
6- لذلك فإن الفن الذي يُصنع كعلاج لنقص الحياة – والذي يتضمن الأوبرا الواغنرية، والفن التشاؤمي الرومانسي والفن المسيحي – يجب ألا يُنتج.
الأقوال الثلاثة الأولى اُخذت مباشرة من )370(. هنا يقول نيتشه:
«كل فن ربما يُنظر إليه كعلاج ومساعد في خدمة نمو وصراع الحياة، هو دائماً يفترض سلفاً المعاناة والمعانين. ولكن هناك نوعين من الذين يعانون:
أولاً، أولئك الذين يعانون من الوفرة المفرطة للحياة هم يريدون فناً ديونيسياً Dionysian art ورؤية تراجيدية للحياة، وثانياً أولئك الذين يعانون من فقر الحياة، ويبحثون عن الراحة، الهدوء، البحار الهادئة، خلاصهم من أنفسهم من خلال الفن والمعرفة، أو التسمم، التشنجات، التخدير والجنون. جميع الرومانسية في الفن تمتثل للحاجات الثنائية للنوع الأخير الذي يتضمن شوبنهاور بالإضافة إلى ريتشارد واغنر.. أولئك الذين يعانون كثيراً والأفقر في الحياة سيحتاجون قبل كل شيء إلى الاعتدال، الهدوء والخيرية في الفكر والفعل أيضاً. باختصار، ضحالة معينة تُبقي الخوف بعيداً وتحيط الفرد بأفق متفائل (المقدمة الثالثة). إن الرغبة بالتحطيم، التغيير، والتحول يمكن أن تكون تعبيراً عن طاقة فائضة حاملة للمستقبل، ولكن يمكن أن تكون أيضاً كراهية من هو سيئ التكوين، المحروم من الحقوق، المفتقر للامتيازات، الذي يحطم ويجب أن يحطم لأن الوجود وكل ما يوجد حقاً، يثير الغضب والتحريض.. الرغبة بالخلود تتطلب أيضاً تفسيراً مزدوجاً. إنها يمكن تعزيزها أولاً بالامتنان والحب.. لكنها يمكن أيضاً أن تكون رغبة استبدادية لمن يعاني بعمق، المكافح، المعذّب، ويرغب تحويل الشخصي والضيق، وخصوصية معاناته، إلى إكراه وقانون ملزم، شخص كما كان، ينتقم لنفسه من كل الأشياء بفرض رمزيته، رمزية المستقبل، عليها، وطبعها بها. هذه النسخة الأخيرة هي رومانسية تشاؤمية بشكلها الأكثر تعبيراً، وسواء كانت فلسفة شوبنهاور بالرغبة أو موسيقى واغنر- التشاؤمية الرومانسية، هي الحدث العظيم الأخير في مصير ثقافتنا».
فائض الحياة مقابل فقرها
ماذا يعني أن تكون ممتلئاً بالحياة أو مفتقراً لها؟ استعمال ما قبل نيتشه «للحياة» يفترض أن كل شيء حي هو ممتلئ بالحياة: لكي تكون مملوءاً بالحياة هو أن تكون حياً، ولكي تكون ناقص الحياة هو أن تكون ميتاً أو تموت. لكن هذا بالتأكيد لا يقصده نيتشه، ولا يقصد المعنى العامي لعبارة «مملوء بالحياة» الذي يشير إلى الناس المتحمسين رغم أن هذا المعنى ربما أقرب إلى نيتشه.
يرى نيتشه الناس يتشكّلون من مختلف الدوافع والقوى التي تعمل دون مستوى الوعي والتي تجسد ذاتها في الشخصية والميول والسلوك. ما يسمى «الرغبة الواعية» لا تعمل أي شيء سوى توفير توضيحات زائفة للفعل بعد حدوثه. الدوافع اللاواعية تتنافس مع بعضها وهي مختلفة القوة، الدوافع المنتصرة تجسد نفسها في الميول والفعل.
تطوّر قوة الدوافع يحدث من خلال الصراع الداخلي بين الدوافع ذاتها، والتي هي قوة مؤلمة. عبر النظر من خلال هذه العدسة، سنرى أن الناس المفرطين بالحياة هم مكوّنون من قوى داخلية قوية، وهذه القوى يجب أن تعبّر عن ذاتها أحياناً في فن مفرط بالحياة.
الناس الناقصو الحياة مشكّلون من قوى داخلية ضعيفة، لذا هم يحتاجون أماكن راحة روحية ومفاهيمية ليستريحوا من الفعالية، أو تحفزهم وتُسكرهم كي تمنحهم مؤقتاً المزيد من الطاقة. يرى نيتشه أن نقص الحياة هو عادة ما يُعبّر عنه فنياً كانتقام من العالم، أو تمجيد وإضفاء المثالية على المعاناة ونقص الحياة. (من غير الواضح من كتاباته ما إذا كانت هناك أي طرق مفيدة اجتماعياً للناس ناقصي الحياة لعلاج نقصهم الحياتي).
بالإضافة إلى تأثير الفن، يهتم نيتشه عموماً بالظروف التي تنتج أناساً عظماء. الغذاء هو مجال متكرر للاهتمام. فمثلاً، هو يسأل: «هل قام أي شخص بدراسة لمختلف الطرق في تقسيم اليوم أو لنتائج جدول منتظم للعمل، أو للاحتفالات، وغيرها؟ ما هي التأثيرات الأخلاقية لمختلف الأطعمة؟ هل هناك اي فلسفة للتغذية؟ (العلم المرح، قول 7). أجزاء كبيرة من مشروع نيتشه الجمالي والسيكولوجي يتألف من مخطط لفلسفة الاستهلاك هذه. هو يبحث عن وسائل لغاية ما يعتبرها الأكثر قيمة في حياة الإنسان: ليس المتعة أو غياب الألم، ليس الفضيلة، ليست العقلانية، وإنما العظمة. هنا نتّبع تفسير ) Brian Leiter ) لفلسفة نيتشه الأخلاقية (2008). بموجب هذا التفسير، يكون نيتشه ذرائعياً، يحكم على القيمة الأخلاقية للحدث تبعاً لتأثيره. هو أيضاً كمالي أو منشد للكمال، يعتبر الشيء ذي قيمة فقط عندما يساهم في تطوير عظمة الإنسان. حماسة نيتشه لعظمة الإنسان تربط كلياً مشروعه الأخلاقي والجمالي والسيكولوجي. هو دائماً يحاول تحديد الظروف التي تشجع أو تثبط العظمة. التعامل مع الفن والموسيقى كأشياء للاستهلاك، والتي لها تأثيرات لاواعية وسيكولوجية على المستهلك، هو منسجم مع إنكار نيتشه لفكرة أننا نستطيع بوعي اختيار أو تقرير شخصيتنا وسلوكنا.
ما هو الدليل لدى نيتشه بأن استهلاك الفن الناقص الحياة يمنع تطوير عظمة الإنسان؟ هذا هو نيتشه الذي يقول «من لم يقتلني يجعلني أقوى»، والذي عادة يبدو كأنه يزعم نوعاً من المحنة كشرط مسبق لازدهار الإنسان. هل هو يعتقد أن الظروف الثقافية السلبية التي تخلق السحر المغري والفخ للضعفاء، هي حقاً جيدة لتطوير الناس العظماء؟
الموقف من واغنر (1888) يجعل من الواضح أنه لا يعتقد بهذا. الموسيقى غير التامة تشجع وتثري الأرواح النابضة سلفاً بالحياة. وحول موسيقى بيزيت هو يقول «هل لاحظ أي شخص أن الموسيقى تحرر الروح، تعطي أجنحة للفكرة، وأنه كلما أصبح المرء موسيقياً كلما أصبح فيلسوفاً أكثر»(CW1). يبدو أن نيتشه يعتقد بأنه على الأقل بعض قيمة الموسيقى المفرطة بالحياة تنبثق من الكيفية التي تثير بها التغيرات المفضلة لدى المستمع.
وهناك الكثير ما يقوله نيتشه حول التأثير المفسد للموسيقى الناقصة الحياة، مستهدفاً واغنر: «أنا لا أظنني أوافق على هذا السلب المنحط لصحتنا. هل إن واغنر إنسان؟ ألم يكن مرضاً؟ هو يلوث كل ما يلمسه. هو جعل الموسيقى مريضة.. ولا أحد يحترس ضده. قوته بالإغراء نالت مدى وحشياً.. وهو بالتأكيد لم يحوّل فقط فقير الروح لجانبه.. فن واغنر مسبب للمرض.. واغنر أكبر مفسد للموسيقى»(CW5). من الواضح أن نيتشه لديه مشكلة معينة مع واغنر، لكن هذه الاقتباسات تشير أيضاً إلى قلق عام حول الفن وتأثيره. الموسيقى يمكن أن تكون مرضاً تفسد المستمع، يتضرر بها ليس فقط فقير الروح وإنما أيضاً القوي والصحي سيُصاب بهذا السم المغري.
نيتشه يعتقد أيضاً أن الفن الناقص الحياة هو ضار حتى اجتماعياً لأنه يمنع ازدهار الإنسان العظيم، وهذا لا يعني بالضرورة أن مثل هذا الفن لا يجب أن يُنتج، والذي هو المقدمة الخامسة في الجدال. ربما الفن الناقص الحياة يعمل ضد تطوير الناس العظام، ولكن فيه سمات إيجابية أخرى تجعله ذا قيمة؟ نيتشه أيضاً الفيلسوف الذي يقول «أنا أريد أن أتعلم الكثير والكثير لأرى كجميل ما هو ضروري في الأشياء.. أنا لا أريد الحرب على ما هو قبيح، أنا لا أريد أن أتّهم، أنا لا أريد أن أتّهم أولئك الذين يتّهمون»(GS276). أيضاً: «أنا أمقت كل تلك الأخلاق التي تقول: لا تفعل هذا، تنازل، اهزم نفسك»(304). الدعوة لوضع نهاية للفن الناقص الحياة تبدو تماماً مثل أخلاقية التنازل. مع ذلك، في موقف واغنر من الواضح أنه يعتقد أن الفن الناقص الحياة خاصة فن واغنر يجب ألا يُنتج: «إنه ثمن باهظ يدفعه التابع لواغنر. ماذا صنعت عبادة واغنر للروح؟.. يعود له كل ذلك الغموض والمراوغة وكل الصفات الأخرى التي تقنع المقابل دون أن تجعله واعياً بما يقتنع به. بهذا المعنى، يكون واغنر مغرياً من الحجم الكبير. لا شيء هناك مستنزف، لا شيء عقيم، لا شيء خطير على الحياة، لم يجد غطاءً له في فنه.. هو يمدح كل غريزة عدمية (بوذية) ويطلقها في الموسيقى، هو يمدح كل شكل للمسيحية، كل تعبير ديني للانحطاط الأخلاقي.. هو يسرق شبابكم، نساءكم أيضاً ويجرهم إلى زنزانته. CW postcript)). إذا لم تكن هذه دعوة لقمع موسيقى واغنر، فماذا ستكون؟
تصور أفلاطون للعظمة
حتى الآن فحصنا الأسس التي اعتمدها نيتشه في جداله ضد الفن الناقص الحياة من دون أن نتطرق إلى العلاقة بين هذا الجدال وأفلاطون. دعنا أولاً نتطرق إلى موقف أفلاطون من الفن.
في كتاب (الجمهورية) يحاول أفلاطون تحديد ماهية الدولة المثالية. طبقة الحراس، التي تضم الحاكم الفيلسوف في مدينة أفلاطون المتخيلة، يجب أن تتلقى تعليماً جيداً لكي تطور الجزأين الروحي والمنطقي من روحها، طالما أنه من الضروري لأفراد الطبقة إنجاز مهامهم الاجتماعية المنوطة بهم، ويكونون مجهزين للعدالة. الشعر خصوصاً الشعر الذي يصف الآلهة وهم يقومون بأشياء مثل القتال، الإغراء، الكذب أو التغيير، كل ذلك يؤذي تعليم الحراس من خلال تلقينهم أشكالاً مثالية تنقل دروساً سيئة. الموسيقى أو الرقص تشجعان الطموحات أو المشاعر التي لا ينبغي للحراس امتلاكها (الحزن مثلاً) وهي أيضاً تُعتبر مؤذية. لكن الجزء الأكثر أهمية في القصة هو رؤية أفلاطون للنوع الأعلى من الناس وكيف ترتبط هذه الرؤية بمشروعه الجمالي. هنا يتضح الكثير من الشبه أو عدم الشبه مع نيتشه.

مختلف حوارات أفلاطون تضع تمييزاً بين الأنواع العليا والدنيا من الناس. في حوار (فيدو) يصف أفلاطون مخططاً من تسعة أجزاء يجب أن تقع فيه الروح، حيث أرواح الفلاسفة في القمة وأرواح المستبدين في القعر. إذا كان نيتشه يتفق مع هذا الموقف، فلابد من ملاحظة أن الفيلسوف الحقيقي بالنسبة إلى نيتشه هو الخالق للقيم الجديدة، وليس من يحدد المفاهيم الثابتة كما بالنسبة إلى أفلاطون. منْ يقرر موقع الروح في مخطط أفلاطون هو درجة اطلاع الروح على الأشكال قبل أن تهبط الروح في البدن، بالإضافة إلى مقدرة الروح على تذكّر تلك الأشكال عند تجسيدها. أشكال أفلاطون هي قصة أخرى، ولكن باختصار، كل الأشياء التي نتصورها من خلال حواسنا هي ظلال للجواهر الأبدية التي يمكن معرفتها بالعقل وحده.
هذه الجواهر هي الأشكال المحبوبة لأفلاطون. الهيكل التراتبي للأرواح مشابه للهيكل التنظيمي للحكومات والناس في الكتاب التاسع من الجمهورية، لكن معظم كتاب الجمهورية لا يعطي الكثير من التفاصيل حول الفروقات، مقدماً فقط ثلاثة أصناف عامة ينتمي إليها الإنسان، تتطابق مع الأجزاء الثلاثة للروح وهي الراغبة، والروحية، والمنطقية. وهكذا، المجتمع المثالي فيه ثلاث طبقات اجتماعية. الناس الراغبون هم الناس العاديون والفلاحون والحرفيون والتجار والعمال الذي يشغلون أدنى طبقات المجتمع، يقومون بجميع العمل المألوف تحفزهم الرغبة بالمتعة والنقود. الناس الذين هم أكثر تحفزاً هم العسكريون الذين يحمون المدينة. وأكثر الناس منطقاً هم الحراس الذين يحكمون المدينة. الحراس هم الطبقة العليا لدى أفلاطون وفيهم الملك الفيلسوف. هم حكماء، شجعان، معتدلو المزاج، عادلون، من خلال امتلاكهم معرفة عميقة بالأشكال. هذه المعرفة يجب أن تُغرس. الكثير من كتاب الجمهورية يتألف من تحليل للتعليم الذي يجب أن يتلقاه الحراس. إذا كان الحراس غير سعداء بالدور الموكل إليهم، أو ليس لديهم الشجاعة الكافية، عندئذ هم سيكونون غير قادرين على التفوق في فن العدالة. هم يجب أيضاً أن يمتلكوا معرفة حقيقية بالأشكال الأفلاطونية، طالما أن هذه المعرفة يجب أن تتحكم بالقرارات التي يجب أن يتخذونها. قدرة الحراس على التذكّر وفهم الأشكال تتطور وتُربّى من خلال التعليم. الشعر والقصة لا يقدّمان معرفة، وكما يجادل أفلاطون في حوار (ايو)، إن الشعراء يتأثرون بجنون ديني ولا يمتلكون المعرفة التي يستطيعون نقلها، وبهذا يجب ألا يتأثر بهم الحراس.
سيكون من السوء للحراس استبطان الأخلاق التي تصبح شيئاً أقل مما يتناسب معهم، مثلاً، أن يصبح الحارس إسكافياً. الإلقاء الشعري والدراما يستلزمان التقليد من جانب المنشد أو المسرحي، وهو سيئ لأنه يوحي أن الشخصية ليست ثابتة، وأن التغيير مقبول وممكن. في جوهر هذه الجدالات تكمن الحاجة إلى الاستقرار. الدولة العادلة هي مستقرة وسعيدة كنتيجة لكونها منظمة طبقاً للأشكال المثالية الأبدية اللامتغيرة. الفيلسوف يتحلّى بالفضيلة نتيجة لمعرفته بتلك الأشكال. كونك فيلسوفاً هي حالة باطنية قيّمة للفرد، وهي وظيفياً ضرورة لعمل المجتمع المنظم جيداً، ذلك لأن الفلاسفة وحدهم يدركون الواقع الحقيقي الكامن وراء المظاهر، ولذلك يفهمون عالم الأشكال بما فيه شكل الخير الذي تُشتق منه العدالة.
مقارنة بين تصورات نيتشه وأفلاطون
النوع الأسمى من الناس لدى أفلاطون هم الذين يشتقون فضيلتهم من معرفة الأشكال وقادرون على أن يطبّقوا عملياً المعرفة لجعل المجتمع أكثر انسجاماً واستقراراً. ولكن ما هي قيمة الرجل العظيم لدى نيتشه؟ الجواب عن هذا السؤال يكشف عن النقطة الجوهرية في الخلاف بين أفلاطون ونيتشه. الإنسان العظيم لدى نيتشه هو الذي يحتضن ويسهّل التغيير، ويتحرك بقوى عنيفة وغير عادية (CF GC 26,55). هو يقبل ويؤكد الحياة والعالم. هو شخص ممتلئ بالحياة، وإذا كانت حوافزه القوية تقف بالضد من معتقدات المجتمع وقيمه، فهو سيحطم تلك القيم القديمة ويخلق قيماً أخرى جديدة، هذا الاختراع للقيم يشكّل قيمهُ الاجتماعية (Gs4,10,39,50). لذا فإن طبيعة وقيمة عظمة الإنسان هي في تضاد مع أفلاطون. العظمة لدى أفلاطون تُشتق من العلاقة مع الخالد واللامتغير، بينما العظمة لدى نيتشه تأتي من احتضان الفرد للمؤقت والتغيير من خلال الامتلاء بالحياة. كلا الفيلسوفين لديهما أنواع معينة ضارة من الفن لأنها تكبح خلق وازدهار الأنواع العليا من الناس. خلافهما يكمن كلياً في الطريقة التي نفهم بها عظمة الإنسان. هذا التقييم المختلف للعظمة يقود إلى تقييم مختلف لما هو مضر في المجتمع. فن الحياة الناقصة لدى نيتشه يتبنّى الانتقام من العالم المؤقت ويصف المعاناة كمثال خالد، بينما الشعر لدى أفلاطون يحرّض على التغيير وعدم الامتثال للمواقع والهياكل الاجتماعية. لذا علينا الانتباه قبل شراء بطاقة للحفل القادم، أن نتأكد أي نوع من العظمة نسعى إليها.

التاريخ: الثلاثاء28-7-2020

رقم العدد :1007

 

 

آخر الأخبار
بمشاركة سورية.. انطلاق فعاليات المؤتمر الوزاري الرابع حول المرأة والأمن والسلم في جامعة الدول العربي... موضوع “تدقيق العقود والتصديق عليها” بين أخذ ورد في مجلس الوزراء.. الدكتور الجلالي: معالجة جذر إشكالي... بري: أحبطنا مفاعيل العدوان الإسرائيلي ونطوي لحظة تاريخية هي الأخطر على لبنان عناوين الصحف العالمية 27/11/2024 قانون يُجيز تعيين الخريجين الجامعيين الأوائل في وزارة التربية (مدرسين أو معلمي صف) دون مسابقة تفقد معبر العريضة بعد تعرضه لعدوان إسرائيلي الرئيس الأسد يصدر قانوناً بإحداث جامعة “اللاهوت المسيحي والدراسات الدينية والفلسفية” الرئيس الأسد يصدر قانون إحداث وزارة “التربية والتعليم” تحل بدلاً من الوزارة المحدثة عام 1944 هل ثمة وجه لاستنجاد نتنياهو بـ "دريفوس"؟ القوات الروسية تدمر معقلاً أوكرانياً في دونيتسك وتسقط 39 مسيرة الاستخبارات الروسية: الأنغلوسكسونيون يدفعون كييف للإرهاب النووي ناريشكين: قاعدة التنف تحولت إلى مصنع لإنتاج المسلحين الخاضعين للغرب الصين رداً على تهديدات ترامب: لا يوجد رابح في الحروب التجارية "ذا انترسبت": يجب محاكمة الولايات المتحدة على جرائمها أفضل عرض سريري بمؤتمر الجمعية الأمريكية للقدم السكرية في لوس أنجلوس لمستشفى دمشق الوزير المنجد: قانون التجارة الداخلية نقطة الانطلاق لتعديل بقية القوانين 7455 طناً الأقطان المستلمة  في محلجي العاصي ومحردة هطولات مطرية متفرقة في أغلب المحافظات إعادة فتح موانئ القطاع الجنوبي موقع "أنتي وور": الهروب إلى الأمام.. حالة "إسرائيل" اليوم