الملحق الثقافي:
جودت هوشيار كاتب وناقد عربي يقيم في موسكو، شغل بالأدب الروسي قراءة ومتابعة وترجمة. حول تجربته الثرة هذه تحدث في حوار صحفي قائلاً:
عشقت الأدب الروسي منذ يفاعتي، وقرأت معظم ما صدر من الأعمال الأدبية الروسية المترجمة الى اللغة العربية، وبعد سفري الى روسيا – في بعثة دراسية على نفقة الحكومة العراقية ودراستي للغة الروسية – قرأت تلك الأعمال وأعمال أخرى كثيرة بلغتها الأصلية. وخاصة الأدب الروسي الكلاسيكي، التي أعتقد أنها تحتل مكان الصدارة في الأدب العالمي. وخلال إقامتي في موسكو اكتشفت الثراء الباذخ للغة الروسية، حيث يمكنك التعبير بهذه اللغة عن أدق وأعمق الأحاسيس والمشاعر والانفعالات والأفكار. إن اللغة الروسية قد تبدو غريبة لمن لا يعرفها، ولم يسعفه الحظ للدخول الى جنة الأدب الروسي الكلاسيكي، ولكن يكفي أن تقرأ عدة أبيات لأمير الشعراء الروس ألكسندر بوشكين بلغتها الأصلية لتدرك جمال هذه اللغة وموسيقاها الساحرة.
لم يطلع القارئ العربي سوى على جزء يسير من الأعمال الأدبية الروسية الكلاسيكية لبعض كبار الكتاب الروس (غوغول، تورغينيف، تولستوي، تشيخوف، غوركي) فعلى سبيل المثال تتكون المؤلفات الكاملة لتولستوي من تسعين مجلداً، وتشيخوف من خمسة عشر مجلداً. كم من هذه الأعمال ترجمت إلى العربية؟ أقل من الربع في أفضل الأحوال. ومن حسن الحظ أن أعمال دوستويفسكي شبه الكاملة قد ترجمت إلى العربية من قبل سامي الدروبي، ولكن من لغة وسيطة هي اللغة الفرنسية. ولم تترجم نتاجات كتاب كلاسيكيين روس كبار آخرين مثل كورولينكو، وشدرين، وغونجاروف، وإكساكوف، وعشرات غيرهم من فحول الكتّاب.
وفي حديثه مع موقع طنجة الأدبي يقول هوشيار: إيفان بونين هو أول كاتب روسي حاصل على جائزة نوبل في الآداب عام 1933، شرعنا بترجمة أعماله منذ عام 1973 حين كان مجهولاً تماماً بالنسبة إلى القارئ العربي. وعندما صدر كتابي المعنون “دراسات معاصرة” عن وزارة الثقافة العراقية عام 1973، وفيه إشادة بالفن القصصي لدى إيفان بونين، كتب عميد النقد الأدبي العراقي الحديث المرحوم الدكتور على جواد الطاهر مقالاً في جريدة الجمهورية البغدادية يقول فيه ما معناه إننا لم نسمع باسم إيفان بونين، وطالبني أن أترجم بعض قصص بونين لأثبت صحة ادعائي. وقد استغربت ذلك في حينه، لأن الطاهر كان من أوسع النقاد والأكاديميين العراقيين اطلاعاً على الأدب الفرنسي، وقد حصل على درجة الدكتوراه في الأدب من جامعة السوربون. وله دراسة مطولة ورائعة عن تأريخ القصة القصيرة في الأدب العالمي نشرها في ملحق مجلة “المعلم الجديد” العراقية الصادر في كانون أول 1957. ولم يشر فيها إلى روائع إيفان بونين في القصة القصيرة، رغم أن معظم نتاجات بونين ترجمت إلى اللغة الفرنسية أكثر من مرة. وعندما كان الطاهر في باريس كانت شهرة بونين مدوية وواسعة.
ولا يعرف القارئ العربي من الأدباء السوفييت إلا بعض نتاجات عدد محدود من أولئك الذين روجت لهم دور النشر اليسارية في العالم العربي في العقدين الرابع والخامس من القرن الماضي، مثل شولوخوف وألكسي تولستوي. أو بعض الأدباء السوفييت المغضوب عليهم في بلادهم من قبل السلطة السوفييتية خلال السنوات اللاحقة، مثل باسترناك الذي ترجمت روايته (دكتور زيفاكو) ترجمة تجارية مشوهة ومبتورة، في حين أن باسترناك شاعر عظيم في المقام الأول. ولم يترجم من أعمال سولجنيتسن، إلا تلك التي أثير حولها ضجيج سياسي مغرض في الغرب. ولم يترحم شيء من أعمال أكسيونوف الرائد المؤسس للأدب الروسي المعاصر. وحتى الآونة الأخيرة لم يكن القارئ العربي قد عرف أسماء لامعة في الأدب السوفييتي مثل بلاتونوف وبيلنياكوز وشينكو وماندلشتام وشالاموف، وعشرات غيرهم. لهذا كله أحاول التعريف بأولئك الكتاب والشعراء العظام، الذين لم يسمع بهم المثقف العربي، ناهيك عن المتلقي العادي. وثمة أمر آخر بالغ الأهمية، وهو أن معظم ما ترجم الى العربية من الأعمال الأدبية الروسية كان عن طريق لغتين وسيطتين، هما الإنجليزية والفرنسية، وليس عن الروسية مباشرةً.
عن الكاتب الحقيقي
الكاتب الحقيقي يخلق عالمه الخاص، والأدب الحقيقي يستمد قيمته من جماليته وتعبيره عن عوالم الأعماق، وكونه شهادة إنسانية عابرة للزمان والمكان، ففي أساس كل أدب حقيقي هناك سعي لفهم الحياة وإدراك قضايا الوجود الإنساني وإيجاد الشكل الملائم لإيصال ذلك إلى الجمهور القارئ. أما أساس الأدب الاستهلاكي فهو إنتاج سلعة قابلة للبيع والتسويق. وثمة فرق جوهري آخر بين هذين النوعين من الأدب يكمن في اختلاف الدافع للكتابة، الذي يحدد علاقة المؤلف بالجمهور القارئ. الكاتب الحقيقي صادق مع نفسه ومع الجمهور القارئ. ويقول الحقيقة دائماً وقد يصطدم بالسلطة أحياناً.
إن الدافع الأساسي لتغليب الأدب الهابط واكتساحه للمشهد الأدبي سواء في روسيا أو غيرها هو تخدير وعي الجماهير، وإلهاء الناس عن همومهم الحياتية، وزرع الأنانية في النفوس وتحويل المجتمع إلى مجتمع مادي استهلاكي، لا يعنى كثيراً بالقيم الروحية.
الكاتب الحقيقي يخلق شخصيات نابضة بالحياة، ويكشف عن عوالمها الداخلية، والقارئ يرى تلك الشخصيات مجسدة أمام ناظريه، وفي الوقت نفسه يشعر بأن الخيال الممتع يسري خفيفاً لطيفاً في ثنايا القصة بطريقة تثير حبه للاستطلاع إثارة متصلة، ويحس أنه يعيش مع أبطال القصة. يفرح لأفراحهم ويتألم لعذاباتهم. وكل قصة فنية أشبه بجبل جليدي، لا يظهر للسطح سوى جزء صغير منه. وكل قارئ يكمل القصة في خياله حسب تجاربه وخبرته الحياتية وثقافته.
أما الأدب المزيف فإنه سطحي، وتقريري مباشر، وشخصياته دمى يحركهم المؤلف بين يديه. وقبل فترة قرأت نص مقابلة مع روائي عراقي، جاء فيها: “أن شخصيات رواياته دمى بين يديه يحركها كما يشاء”. في حين أن كاتباً عظيماً مثل تولستوي مؤلف “آنا كارينينا” يقول إن آنا رمت بنفسها تحت عجلات القطار رغم أنف المؤلف، لأن كل أحداث الرواية قادت البطلة إلى هذه النهاية المحتومة.
أما عن الأدب العربي المعاصر، فهو يرى أنه زاخر بالمواهب الكبيرة في القصة والرواية والشعر، وتتمثل فيه التيارات الأدبية السائدة في الأدب العالمي المعاصر. ولكن الأدب العربي يلقى اهتماماً أقل مما يستحقه، في الدول الغربية، وفي روسيا. إن العائق الكبير أمام ترجمة جزء كبير من الأعمال الأدبية العربية إلى اللغات الأجنبية، هو أن الأدباء التقليديين يستخدمون الأسلوب الزخرفي، الذي لا عمق فيه، وألفاظ عائمة وكلمات بلا معنى، وهي كلها لا تخل بالمعنى فقط، بل تشل قدرة الذهن على التفكير الناضج المحدد.
الجيل الجديد يتعجل النشر والشهرة قبل الأوان، وقبل امتلاك التقنيات الأساسية للفنون السردية، بينهم من لا يعير اهتماماً كبيراً للغة التي يكتب بها. ويتركز اهتمامه على نسج العلاقات التواصلية مع أصحاب النفوذ في الساحة الثقافية والوسائل الإعلامية، ومانحي الجوائز الأدبية. أما قيمة العمل الأدبي فتأتي في المرتبة الأخيرة، لأن الكتاب الأدبي في العالم العربي أيضاً تحول إلى سلعة في السوق. وتحول المتلقي إلى مجرد مستهلك. والهدف الأساسي لدور النشر التجارية العربية هو نشر الكتاب الرائج وتحقيق أقصى الأرباح بصرف النظر عن قيمته الفكرية والفنية. إن مثل هذا الأدب يقود إلى مزيد من الاستسهال والركود.
التاريخ: الثلاثاء28-7-2020
رقم العدد :1007