الملحق الثقافي:
ربما من أكبر الأخطاء التي نقع فيها حين نظن أن اللغة مشروع غير رابح، وينظر في الوطن العربي إليها على أنها ترف خارج الحاجة، ولهذا لا تعطى أهمية كبيرة إلا في المناسبات.
وهنا ثمة قطيعة معرفية مع الماضي بل والحاضر ربما عن سابق قصد وإصرار أو عدم انتباه، وهي كالتالي: لماذا لم يستمر الاستثمار في اللغة كما كان ذات يوم من العصر الجاهلي حتى الآن؟
قد يسأل البعض كيف كان الأمر؟ وهنا يبدو الجواب بسيطاً سهلاً لا عناء في العثور عليه.
شاعر القبيلة
كانت القبائل تحتفل ببزوغ نجم شاعر فيها، لأنه المحامي والمنافح عنها، وهو وزير إعلامها حينها والناطق الرسمي باسمها، ومؤرخ أيامها ومخلدها. والاستثمار هنا معنوي، لا يزول وهو باق إلى حد الآن.
وثمة استثمار آخر ألا وهو الكسب المادي من المديح، وهذا ليس عابراً، بل كان موجوداً واستمر في العصر الأموي والعباسي. ويرى البعض أنه بلغ ذروته مع المتنبي.
ومن باب الطرافة يروون أن أحد الخلفاء أعلن أنه سيكافئ مادحيه ثقل القصيدة ذهباً. يأتيه الأصمعي حاملاً قصيدة مكتوبة على حجر كبير.
ناهيك بما يروى عن شراء كتب من مؤلفين بثقلها ذهباً أو فضة. ولم تكن قليلة الوزن لما تكتب عليه من جلود وأوراق وغيرها.
وهنا يمكن الإشارة إلى مكافآت الأمراء والملوك لمصنفي الكتب والمؤلفات، فيتم منح هذا بستاناً، وذاك جواري وذهباً، ما جعل حركة التأليف تنشط جداً.
إنه استثمار بين عدة جهات، أدرك أهميته الحكام وولاة الأمر. ونشأت صناعة الورق ومهنة الوراقين وتأجير الكتب لمن لا يستطيع دفع ثمنها.
هل نذكر أيضاً بالقصائد التي كانت تقال كوسيلة إعلانية، مثل قصيدة: قوم هم الأنف؛ أو قل للمليحة في الخمار.
أليس هذا كله استثماراً في اللغة التي هي مادة كل هذه الفنون؟
ولا ندري لماذا لا يرى المعنيون الآن أن الاستثمار في اللغة ضرب مهم بل ومربح جداً.
العرب واللغة
كان العرب اول من استثمر باللغة، وحين ترسخ الاستثمار نفروا منه. ولا بد من الإشارة إلى أن الاستثمار في اللغة كان مزدهراً منذ نهايات القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين؛ حيث لم يكن الاقتصاد العربي أخذ شكله، ولم تكن الثروات الباطنة قد اكتشفت كلها..في هذه المرحلة كانت الطباعة رائجة ما بين دور نشر ومجلات وصحف. فعلى سبيل المثال في اللاذقية وحدها مطلع القرن العشرين كانت تصدر أكثر من ٢٠ مطبوعة بين يومية وأسبوعية. فكيف بالمحافظات الكبيرة دمشق وحلب؟ ألا يحتاج ويؤدي إلى دورة رأس مال وعمل؟
اللغة والنقود
في دراسة مهمة حملت عنوان “اللغة والاقتصاد” للباحث فلوريان كولماس صدرت عن سلسلة عالم المعرفة الكويتية ترجمها دكتور أحمد عوض وحملت الرقم ٢٦٣ عام ٢٠٠٠م، يقدم الباحث دراسة معمقة في هذا الإطار. ومن اللافت تلك العلاقة التي يقدمها بين اللغة والنقود. يقول ص٨: “إن الكلمات تسك كما تسك النقود، وتظل متداولة ما دامت سارية المفعول، فهي “أي الكلمات” عملة التفكير، ونحن نمتلك منها أرصدة سائلة بقدر ما نمتلك ناصية لغة معينة، وعندما نتفاهم مع أحد ما، فإننا نتفق على ثمن يجب دفعه. وعندما لا نكون مخلصين، فإننا لاندفع إلا كلاماً زائفاً. وعندما نصف اللغة والنقود معاً بأنهما رصيدان، فإنما نلفت النظر إلى دوريهما في تحقيق الفرد. فهما قدرة كامنة تجعل تحقيق الفردية ممكناً عن طريق توسيع نطاق الفعل عند من يمتلكونها، وبالتالي تعينهم على التكيف مع المجتمع”.
ومن اللطيف أنه يعد الكمبيالة أو السند ذات طبيعة لغوية والكلمات في الواقع شيء ليس قائماً في طبيعته. والافتراض الساذج بأن للكلمة معنى متأصلاً فيها، إنما هو افتراض يشبه التصور الساذج بأن للنقود قيمة في حد ذاتها.
ولكن الكلمة والعملة كلتيهما لا يمكن أن تكونا على ما هما عليه في الواقع إلا لأن الأمر ليس كذلك. فهما في الأساس أمران اصطلاحيان ويمكنهما أداء وظيفتيهما بفضل تجريدهما. فالأولى عبارة عن أداة تبادل للسلع المعنوية، والأخيرة عبارة عن تبادل للسلع المادية.
وهذا يذكر بالقول: التعبيرات والكلمات الأخرى ذات القيمة العظمى وذات القيمة الدنيا، تخرج من فم المتكلم تماماً مثلما تصدر من الخزانة كل أنواع العملات الذهبية والفضية والنحاسية.
وإذا كانت الدراسة تذهب في العمق وتحلل اقتصادات اللغة، فإنها في الوقت نفسه تعمل على التسويق للغات الغربية. بمعنى آخر فعلاً تبدو دراسة نظرية تطبيقية من خلال الدعاية للغرب ولغاته. وكان لافتاً أنه يقتبس قولاً لملك المغرب الراحل حين يدعو المغاربة إلى تعلم اللغات الغربية لاسيما الإنكليزية والفرنسية من أجل الحياة. فحسب زعم الملك يعيش المغرب في قارة لغتها إنكليزية وفرنسية. ولهذا يجب الاندماج اللغوي فيها من أجل اقتصاد قوي.
بغض النظر عن هذه الاستلابية والتبعية، فإن الاقتباس هنا يقدم ما في الدراسة من خيوط خفية تصب في خانة حرب اللغات، ولكن هذه المرة من باب الاقتصاد أو الحرب الناعمة.
ويتابع الباحث مسألة اللغة والاقتصاد لاسيما مع تأسيس الولايات المتحدة الأميركية، وكيف نبه المؤسسون التجار إلى خطر تهديد التجارة للغة. يقول في الصفحة٦١: “ومهما تكن التجارة ضرورية ومربحة، فإنها تفسد اللغة كما تفسد الأخلاق”.
ولكن اللافت أن التجارة كانت عاملاً لانتشار اللغة الإنكليزية وليس لإفسادها، وربما يكون السبب في ذلك أن صانع الشيء هو الذي يطلق عليه اسمه وهو من يروجه بلغته، وبالتالي كانت الصناعات والتجارة الأميركية هي السائدة والعالم مستهلك. ومازال الأمر قائماً إلى حد الآن. فمن ينجب الطفل، كما يقول العامة، هو من يطلق عليه اسمه.
أميركا والصناعات اللغوية
مخطئ من يظن أن الصورة التي تروج عن الولايات المتحدة، ومفادها أنها لا تؤلف ولا تقرأ. صحيح أننا نتداول هذا الوهم ولسنا معجبين بأميركا، لكننا حقيقة مخطئون بما نعتقده، فالإمبراطورية تؤلف وتقرأ وتنشر وتطبع، والصناعات الثقافية فيها تبلغ مدى كبيراً جداً. وهذا تشير إليه الدراسات. وإلى هذا يشير آرثر بيرغر في كتابه “وسائل الإعلام والمجتمع وجهة نظر نقدية” ترجمه إلى العربية صالح خليل أبو إصبع، وصدر عن سلسلة عالم المعرفة الكويتية ٢٠١٢م وحمل الرقم ٣٨٦، إذ يقول في الفصل المعنون بـ “جماهير وسائل الإعلام، التأثيرات” ص ٩٧:.”في عام ٢٠٠٣م وفي الولايات المتحدة تم نشر ١٦٤ ألف كتاب، أي قرابة ٤٥٠ كتاباً يومياً، وقد نشر يومياً ٤٩ عنواناً مختلفاً في علمي الاجتماع والاقتصاد و٤٦ عنواناً قصصياً و٢٨ عنواناً في العلوم و١٩ عنواناً في الفلسفة. وقد بلغت قيمة صناعة نشر الكتب ٢٣.٧مليار دولار، أي أكبر من صناعتي السينما وألعاب الفيديو مجتمعين”.
ومن اللطيف أن يقدم الباحث رأياً نقدياً بهذه الكتب، ويقول إن عدداً كبيراً منها كان من نوعية رديئة. وعلينا أن نتذكر أيضاً أن كتب النخبة لم تكن جيدة تماماً، وفي التحليل النهائي ما يهم هو مهارات الكتاب. ونحن نضيف إلى ذلك حركة دوران رأس المال الذي حركته هذه الصناعة التي مادتها الخام اللغة وأدت إلى ناتج قيمته ٢٣٠٧ مليار دولار عام ٢٠٠٣م.
وهذا ما يعيدنا تلازم فكرة اللغة والاقتصاد عند فلوريان كولماس.
أوروبا واقتصاد اللغة
وفي أوروبا اقتصاد اللغة مزدهر تماماً من حيث حركة النشر والطباعة، والتنافس قائم بين دول الاتحاد الأوروبي. ترى ألا ينسحب ذلك على الصناعة الثقافية في الوطن العربي؟ بالتأكيد علينا أن نلفت الانتباه إلى أن في سورية أكثر من ٣٠٠ دار نشر معظمها في دمشق، وقد أدت دوراً مهماً جداً في النشر والتوزيع والطباعة.
ومن باب الفكرة الاقتصادية دائماً كنت أشجع على طباعة الكتاب أي كتاب شرط أن يحمل مستوى مقبولاً. من باب الفكرة الاقتصادية وحصيلة دورة العمل التي أشرنا إليها سابقاً.
ومعارض الكتب هي سوق مركزية وضرورية لهذا النشاط الاقتصادي الذي يتجدد كل عام، ويتأثر كما أي نشاط اقتصادي بما يجري.
ولنتوقف بسرعة مثلاً عند ما قدمته الهيئة العامة للكتاب في سورية خلال عام ٢٠١٩ إذ نشرت أكثر من ٢٨٠ عنواناً كما أشار إلى ذلك مديرها العام الدكتور ثائر زين الدين. لنفترض أنها نشرت من كل عنوان ٥٠٠ نسخة، فالحصيلة ليست قليلة أبداً من حيث إثراء اللغة والمعرفة وحركة الاقتصاد والعمل، أضف الى ذلك ما نشرته من دوريات.
مجالات واعدة
تنبه المفكرون والباحثون اللغويون العرب إلى هذا اللون من الاستثمار البكر، وقدموا دراسات عنيت بهذا الجانب، لكن رأس المال العربي على ما يبدو بقي بعيداً عنها.
ويعدد الدكتور محمود أحمد السيد في كتابه “في سبيل العربية” الصادر عن الهيئة العامة للكتاب عام ٢٠١٥م ، مجالات الاستثمار في اللغة العربية ويلخصها بالآتي:
١-الاستثمار في مجال الموسوعات والبنوك الرقمية العربية.
٢-الاستثمار في ترجمة أمهات الكتب العلمية وتزويد الجامعات العربية بها وفي الترجمة الآلية ولاسيما في المجالات العلمية والتقانية.
٣-الاستثمار في وضع معاجم إلكترونية خاصة بالنحو والصرف والبلاغة والعروض.
٤-الاستثمار في وضع برامج تفاعلية حاسوبية لتعلم اللغة العربية لأبنائها ولغيرهم.
٥-الاستثمار في وضع برامج دينية مبسطة لتفسير القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف وتوجه خاصة إلى دول العالم الإسلامي.
٦-الاستثمار في وضع برامج موجهة للطفل العربي على غرار برنامج افتح يا سمسم.
٧-التعامل مع المعلومات بوصفها ثروة أو ساعة اقتصادية مهمة.
٨-الاستثمار في تحويل النصوص إلى كلام والكلام إلى نصوص.
٩-الاستثمار في زيادة المحتوى الرقمي العربي على الشابكة. وقد تبين غياب استراتيجية عربية لفعل ذلك.
١٠-الاستثمار في مشروعات إصلاح الكتابة وتيسير قواعد الإملاء والنحو.
١١-الاستثمار في تنقية الوثائق العامة والمناهج التربوية من التمييز الجنسي.
12-الاستثمار في مجال صوغ المصطلحات.
13-الاستثمار في وضع برامج تعنى بإظهار الجوانب المضيئة في تراثنا العربي.
14-الاستثمار في وضع آليات لمراجعة نقدية للأفكار المنتشرة عبر التقنيات المعاصرة والتي توظف من قبل أعداء الأمة لتشويه صورة العرب والمسلمين. والاستثمار أيضاً في وضع برامج موجهة للأسرة العربية.
هذه قائمة أولية يقدمها الدكتور السيد للاستثمار في اللغة العربية، ولقد أثبتت الدراسات كما يقول ص ١٩٨ وكما أشرنا سابقاً، إلى أن اللغات يمكن أن تعد مشروعات استثمار رأسمالي بالمعنى الحرفي لا المجازي.
والعجز عن تصدير اللغة القومية يجر حتماً إلى استيراد لغة الآخر . ولهذا الاستيراد كلفته المالية. من هنا علينا أن نعمل على فرض لغتنا في مجال التعامل والخدمات، وتعريب المحيط من شأنه أن يدفع بالجهد ويحقق نمو اللغة ومن ثم المعرفة فالاقتصاد. ويكون ذلك باستخدامها في مجال النفط وصناعته والاستثمار فيه، مما يدفع المستثمرين الأجانب إلى تعلمها باعتبارها من أدوات العمل الضرورية.
كذلك يمكن فرض اللغة شرطاً على العمالة الوافدة للدول العربية المستقبلة كما تحاول أن تفعل دول الاتحاد الأوروبي. وكذلك فرض تعريب الوثائق ومطبوعات السفر والخدمات البنكية وغيرها.
وهنا يمكننا أن نضيف أن ذلك حاصل من خلال ما يسمى الترجمان المحلف وما تطلبه الجهات المعنية بمثل هذه الوثائق من ترجمة مصدقة.
وسوق اللغة العربية استثمار ربما أهم من النفط، كون اللغة العربية هي الخامسة عالمياً من حيث عدد المتكلمين، وما زالت مرجعية حضارية دينية لأكثر من مليار مسلم غير عربي.
وكما يقول عبد السلام المسدي: “اللغة رأس مال مجرد في حاجة إلى أن يصونه أهله من كل ما قد ينال منه. فاللغة هنا كالأرض، كلتاهما مجلبة الأطماع وهي أمانة على عاتق أصحابها”.
وهنا علينا أن نقول: لم تعد اللغة رأس مال مجرد فقط، بل رأس مال مادي ومعنوي. ولنردف أن مقولة الكلام ما عليه ضريبة قد سقطت تماماً. فالكلام مال وأي مال.
التاريخ: الثلاثاء11-8-2020
رقم العدد :1008