الثورة أون لاين – علي الأحمد:
لا بدّ من ذلك.. إن أراد هذا الموسيقي، أن يحجز له مكانة وموقعاً، في مسرى الثقافة العالميّة، ومن دون ذلك، سيبقى مكبّلاً ومأسوراً، في تبعيّته للآخر، يكتب موسيقاه بأدواته وعلومه ونظريّاته التي على ” أهمّيتها”، لا تستدعي منه، أن يهجر موسيقاه الوطنيّة، في سبيل نجاحات وقتيّة عابرة، تقوده إلى “العالميّة” كما يظنّ ويتوهّم.
لكن يبقى السؤال مطروحاً هنا: هل بمقدور هذا الموسيقي أو ذاك، القيام بهذه المغامرة؟ وهو الذي تأسّس كما أسلفنا، على المنهج الغربي وعلومه، ومن المحال أن يتحرّر من تأثيره وسطوته، لكن لو عدنا إلى بدايات القرن الماضي، والعودة إلى التاريخ دائماً، أكثر من ضروريّة لأسباب عديدة، من أهمها، قراءة التجربة الموسيقيّة القديمة بعيون معاصرة، وتسليط الضوء على ميراثها الإبداعي الذي تحقّق، عبر كتابة موسيقى عربيّة ذات توق عالمي، أي موسيقى عربية تعتمد بشكل أساس، على عناصر الإبداع في هويتها الموسيقيّة العربيّة من مقامات وإيقاعات وآلات وغيرها، والاستعانة بالصيغ الغربيّة والعلوم في تأليفها وتنفيذها، وبالتالي التوفيق ما بين هذه العناصر الوطنيّة الأصيلة، والعناصر الغربيّة الوافدة، بشكل علمي ومعرفي، بما أنتج في حقيقة الأمر مؤلفات موسيقيّة عربيّة على قدر كبير من الإبداع والخصوصيّة، كما فعل على سبيل المثال لا الحصر، الرعيل الأول من المؤلفين “أبو بكر خيرت، جمال عبد الرحيم، رفعت جرانة، عطية شرارة، شريف محي الدين، عبد الغني شعبان، توفيق سكر، توفيق الباشا، الرحابنة، نوري رحيباني، صلحي الوادي، نوري اسكندر، وأسماء كثيرة مبدعة، تفهّمت المسار الإبداعي الحداثي لموسيقانا العربية، على كونه ضرورة فنّيّة، ورسالة نزوع دائمة نحو التجديد العقلاني، بعيداً عن التأثير السلبي للعناصر الغربيّة على مفردات وتقاليد هذه الهوية الموسيقيّة العربيّة الأصيلة.
إذاً، القضية ليست مرتبطة باستخدام التقنيات والعلوم الغربية، قدر ما هي مرتبطة بإدراك وفهم أعمق لمعنى ومغزى التجديد المعقلن انطلاقاً من الداخل وليس فرضاً تعسّفيّاً من الخارج، فما معنى أن تكتب موسيقى وتطلق عليها اسم” موسيقى عربية” ، وهي ليست كذلك بالمطلق، حيث تخلو من الآلات والمقامات والإيقاعات والتقاليد العربية في الكتابة والممارسة بحجة عدم ملاءمتها للهارموني والبوليفوني مع أنّ ذلك غير صحيح أبداً، ويا ليت هذا الموسيقيّ الذي نحترمه ونقدّره، يعود إلى نتاجات هذه الأسماء المبدعة التي ذكرناها آنفاً وغيرهم، ويقرأ بتمعّن هذه التجربة ويرى بأم ّعينيه، كيف كتب هؤلاء الروّاد موسيقى عربية أصيلة لكن بالصيغ الغربية المعهودة، مع وجود الهارموني والبوليفونية في تلك الأعمال والمؤلّفات الكبيرة بكلّ المقاييس النقدية والجماليّة، طبعاً، مدعاة هذا الكلام، هو واقع وحال موسيقانا العربية الذي بات لا يسرّ أحداً.
ومن أقدر من هذا الموسيقيّ على إعادة الحياة والعطاء من جديد الى شرايينها التي تيبّست جراء حمّى الاستهلاك ومناخات التقليد السائدة المعمّمة بقوة المال والإعلام ، بعيداً عن إرث وميراث الحداثة التي بنى أركانها هؤلاء الروّاد ومعهم بالطبع أسماء معاصرة تغرّد وحدها خارج السرب، تكتب موسيقى عربية إنسانيّة بكل ما تحمل الكلمة من معنى، لكنّها بسبب المناخ السائد، تبتعد عن المشهد الإعلامي الغارق في نتاجات الأغنية الاستهلاكيّة الهابطة، هؤلاء هم الأمل الحقيقي في عودة الروح إلى هذا الفنّ، وهم من سيعيد بالرغم من كلّ المصاعب والعوائق، المسار الحداثي الإبداعي إلى سابق عهده، مهما طال الزمن أو قصر.
ولنقرأ هنا ما قاله الموسيقار العظيم “البينيز” عن هؤلاء الفرسان أمل ومستقبل الموسيقى الإنسانيّة في كلّ زمان ومكان: “هؤلاء جعلوا نصب أعينهم هدفاً معيّناً يثبت بعزم وإيمان أنّهم أولاد بلدهم فيأتون بموسيقى تستقي من دمهم وتربة أرضهم في الاحتفاظ بالتراث كينبوع للإلهام، وذخيرة للوصول بموسيقاهم إلى الآفاق العالميّة”.