التفاعل والتواصل بين الإعلام والثقافة

 الملحق الثقافي:حامد العبد :

في عالم متسارع الأحداث، محموم الأفكار، تهيمن عليه التكنولوجيا والتقدم التقني الذي كان من نتيجته ثورة هائلة في وسائل الإعلام التي تتسابق فيما بينها لفرض حضورها القوي، والمؤثر على حياة المجتمعات والأفراد، وتبذل قصارى جهدها لتُشبع نهم المتلقين الذي لا يعرف الشبع للحصول على المعلومة المطلوبة أو التسلية والترفيه؛ وفي خضم هذا كله، وجدت الثقافة نفسها وجهاً لوجه أمام وسائل الإعلام الجماهيرية منها على وجه الخصوص كالإذاعة التلفاز، والإلكترونية كالشبكة العنكبوتية ووسائل التواصل الاجتماعي، والتي سهلت لكل إنسان إمكانية الاستعلام والاطلاع والمساهمة في النشاط الإعلامي بطريقة لا يحدّها شيء، وبشكل لم يسبق له مثيل، وذلك في فترة وجيزة لا تتجاوز بضعة عقود من الزمن خلال القرن العشرين. وهنا يمكننا القول إن البشرية تعيش منذ سبعينيات القرن الماضي ثورة في هذا المجال، مازالت مستمرة حتى الآن ولم يخبُ أوارها.

التخصص
لقد برزت الحاجة نحو التخصص في المجال الإعلامي كنتيجة لازدياد حاجة الجماهير الملحة إلى مادة إعلامية متخصصة في مجال معين، ونظراً لأن الثقافة هي إحدى تلك المجالات المهمة، كان لابد أن يكون هناك إعلام يتخصص بها، حيث راح هذا الإعلام يسوق لبرامج تُعنى بتقديم المواد الأدبية والفنية والموسيقية، إلى جمهورها العام بُغية تثقيفه، وذلك باستخدام طرق عدة كالزيارات الميدانية إلى مواقع الحدث الثقافي، أو نقل فعاليات الندوات والمعارض الفنية. وكان من نتيجة تلاقي وسائل الإعلام والثقافة، ظهور صناعة جديدة سُميت بالصناعة الثقافية التي فرضت نفسها منذ نهاية السبعينات، ويمكن تعريفها بأنها عملية إنتاج الثقافة باستخدام وسائل الإعلام والاتصال، حيث أصبحت المادة الثقافية في كثير من الأحيان ليست أكثر من مجرد سلعة تباع وتشترى حسب جاذبيتها التسويقية وليس حسب قيمتها المعرفية، وبات الجمهور الثقافي مجرد سوق واسعة يُستثمر فيها حسب قانون العرض والطلب.
ونظراً لأن الثقافة بمفهومها الواسع هي التي تحدد هوية الإنسان كفرد مستقل، أو كعضو في مجتمع ترسم الثقافة فيه أيضاً ملامح أسلوب الحياة (إن كان من ناحية وسائل الإنتاج والتعاملات المادية والأنظمة السياسية والاجتماعية، أو من ناحية الأفكار والقيم والأعراف الاجتماعية والتقاليد)، كان لابد أن تنشأ علاقة تفاعلية وتواصلية بين الإعلام والثقافة. إذ لا يمكن أن نتصور الثقافة بدون أداة تعبير وإبلاغ لأهدافها. وفي نفس الوقت، لا نستطيع تصور إعلام جيد ومرموق لا يولي أية أهمية للجانب الثقافي.

الحدث الثقافي
إن تقدم الحياة الثقافية في مجتمع ما هو مرآة تعكس تقدم هذا المجتمع، وتوثر خصائص الحياة الثقافية على ما يسمى بالحدث الثقافي، الذي يختلف عما سواه من الأحداث السياسية والاقتصادية والرياضية، فهو في المجمل حدث هادئ وسرعة حدوثه بطيئة وليس انفعالياً كغيره، إذ غالباً ما يكون مخططاً له مسبقاً، وغالباً ما يكون غير رسمي (ربما يكون نخبوياً ولكنه غير رسمي)، ولا شك أن استغلاله قد يؤدي إلى دعمه وبروزه إلى السطح، سواء كان ذلك الاستغلال استغلالاً سياسياً كما في الدول المؤدلجة، أو استغلالاً اقتصادياً كما في الدول الليبرالية، ولكن بلا ريب سيفقده هذا الاستغلال الكثير من مصداقيته، خاصة في البلدان التي اعتادت مثل هكذا نوع من الاستغلال، والتي عادة ما يكون فيها الجمهور الثقافي نخبوياً ومحدود العدد، الأمر الذي يستلزم من ناقلي الحدث الثقافي أن يسعوا إليه، وليس العكس كما هو الحال مع الجمهور الثقافي في الدول المتقدمة.
ولا يفوتنا أيضاً أن هذا الجمهور هو بطبيعته جمهور نوعي كذلك الأمر، أي أنه يمتلك مستوى ثقافياً وحضارياً أرفع وأرقى، لأنه صاحب نظرة جدية وعميقة أكثر، الأمر الذي يصعّب مهمة الإعلام الثقافي في إرضائه أو إقناعه، كما هو الحال مع بقية أنواع الجماهير. وخصوصاً أن هذا الإعلام يفترض به أن يخاطب العقول أكثر من الغرائز. بالإضافة إلى أن الإنسان المبدع الذي ينطوي تحت مسمى الجمهور الثقافي، عادة ما يمتاز بقدر كبير من الذاتية والحالة المزاجية، مما يزيد العبء على الكوادر الإعلامية الثقافية المتخصصة التي يعكس تطورها ونوعيتها مدى التطور الحاصل في الحياة الثقافية في المجتمع ومدى غِنى مصادرها. فقد كانت هذه الكوادر في بدايات مراحل الإعلام الثقافي تتكون من أفراد غير متخصصين يتعاملون مع الحدث الثقافي كغيره من الأحداث، ويعالجونه بطريقة سطحية. ولكن بعد ذلك ومع تطور الحياة الثقافية، بدأت وسائل الإعلام الثقافي من صحف ومجلات وإذاعة وتلفزة، تخصص من مساحتها زوايا وبرامج خاصة بالثقافة، فكان من الطبيعي أن يكون معظم القائمين عليها من الأدباء والفنانين، لعدم توفر كوادر مهيأة ومدربة لهكذا نوع من العمل النخبوي، إلى أن بدأت هذه الوسائل تُطَعَّم بإعلاميين متخصصين ومدربين وقادرين على مد جسور التلاقي بين المجالين الإعلامي والثقافي، شأنهم في ذلك شأن بقية المجالات الأخرى.

نشر المعرفة
إن المهام التي باتت مطلوبة من الإعلام الثقافي أصبحت أكثر تعقيداً وخطورة، ولعل من أهمها نشر المعرفة بين أوساط الجماهير عامة وإغناء فكرها، وتنمية الذوق العام وتهذيبه ليكون مهيئاً أكثر لمتطلبات العمل الثقافي، بالإضافة إلى تلبية رغبات المثقفين المتطلعة إلى الجمال والإبداع، وإتاحة الفرصة للطاقات الخلاقة الكامنة في الأشخاص، والأخذ بيد المواهب المغمورة لكي يتسنى لها المساهمة في العمل الثقافي بدورها لاحقاً في المستقبل وتوصيلة للجماهير. ولكن لعل أخطر هذه المهام ولاسيما في دول العالم الثالث عموماً والعربية خصوصاً، هو حراسة إرثها الحضاري والتاريخي، وضمان صيانته ونقله بين الأجيال اللاحقة، وحماية الذاكرة الجمعية وذلك بالوقوف في وجه كل أشكال الغزو الثقافي والفكري الطامح لتحويل جماهير هذه الدول إلى جماهير استهلاكية مفرغة من مضمونها. إذ لم يحدث في التاريخ أن أصبح العالم فريسة لمعطيات وسلع الثقافة الاستهلاكية كما هو عليه الآن، وذلك طبعاً بفضل الثورة في عالم الاتصال التي جعلت العالم قرية صغيرة كما يقال، مما ساهم في توحيد الكثير من الثقافات أو بالأصح ذوبانها في بعضها البعض، لدرجة أنه في الآونة الأخيرة طاف على السطح مفهوم جديد هو مفهوم الثقافة العالمية العابرة لكل الحدود والمتعالية على كل الثقافات الوطنية، بالذات تلك التي لا تملك مقومات المنافسة والصمود أمامها، بغض النظر عن عراقتها التاريخية أو فرادة خصائصها النوعية.
وهنا تقع مسؤولية كبيرة على أصحاب وسائل الإعلام، إن كانت خاصة أو حكومية، في أن تكون حارسة على الثقافة الوطنية الخاصة بكل مجتمع، لا أن تسمح للثقافة الدخيلة والتي في أكثر الأحيان تكون هدامة أي أنها تطمس الهوية الثقافية المحلية. وقد تنبه الكثير من علماء النفس والاجتماع منذ عقود بعيدة إلى دور وسائل الإعلام والاتصال في فهم الواقع الاجتماعي ودراسة القوى الفاعلة فيه والمتحكمة به، وذلك من أجل إعادة صياغته وقولبته من الناحية الثقافية بشكل جديد من أجل سهولة السيطرة عليه وعلى مقدراته، فأصبح من يمتلك وسائل الإعلام الجماهيري هو من يمتلك زمام القوة. ولكن ذلك كله لا يعني التقوقع والانغلاق على الذات أمام الثقافات الأخرى، بل الاستفادة من جمالياتها وإبداعاتها، الأمر الذي يعود بالنفع حتى على الثقافة الوطنية المحلية ويسهم في تطورها ويغني مضمونها.
ينظر البعض إلى الإعلام الثقافي نظرة فيها شيء من الريبة والتوجس، إذ يعتقدون أن مستقبل الثقافة سيكون غير مطمئن طالما أن ثقافة الكتب التقليدية بدأت بالاضمحلال أمام الثقافة المرئية والمسموعة التي تأتي معلبة وجاهزة للاستخدام، وهي وإن كانت واسعة وسهلة الانتشار، إلا أنها ضحلة القيمة والمضمون، كما أنها في كثير من الأحيان تقوم بنقل الثقافة بطريقة انتقائية وغائية، ولكن على الرغم من كل ذلك فإننا لم نعد نستطيع الاستغناء عنه في هذا الزمن، الذي أصبح هو الناقل والحامل الرئيس للثقافة على الرغم من كل الشكوك التي تطاله، ولم يعد النقاش يدور هذه الأيام حول أهمية هذا الإعلام في نشر الثقافة، بل حول كيفية الاستفادة القصوى منه لخدمة الثقافة والعمل لجعلها ميسرة لكل إنسان. ولكن يتوجب علينا ألا نهمل المنابع الحقيقة للثقافة والفكر الإنساني عبر التاريخ. فالإعلام الثقافي مهما علا كعبه وازدادت أهميته وهيمنته، يبقى مجرد امتداد للثقافة ومعبراً عنها أو داعماً لها في أفضل تقدير، ولا يجوز له بأي حال من الأحوال أن يكون بديلاً عنها.

التاريخ: الثلاثاء13-10-2020

رقم العدد :1016

 

آخر الأخبار
الرئيس الأسد يصدر قانون إحداث وزارة “التربية والتعليم” تحل بدلاً من الوزارة المحدثة عام 1944 هل ثمة وجه لاستنجاد نتنياهو بـ "دريفوس"؟ القوات الروسية تدمر معقلاً أوكرانياً في دونيتسك وتسقط 39 مسيرة الاستخبارات الروسية: الأنغلوسكسونيون يدفعون كييف للإرهاب النووي ناريشكين: قاعدة التنف تحولت إلى مصنع لإنتاج المسلحين الخاضعين للغرب الصين رداً على تهديدات ترامب: لا يوجد رابح في الحروب التجارية "ذا انترسبت": يجب محاكمة الولايات المتحدة على جرائمها أفضل عرض سريري بمؤتمر الجمعية الأمريكية للقدم السكرية في لوس أنجلوس لمستشفى دمشق الوزير المنجد: قانون التجارة الداخلية نقطة الانطلاق لتعديل بقية القوانين 7455 طناً الأقطان المستلمة  في محلجي العاصي ومحردة هطولات مطرية متفرقة في أغلب المحافظات إعادة فتح موانئ القطاع الجنوبي موقع "أنتي وور": الهروب إلى الأمام.. حالة "إسرائيل" اليوم السوداني يعلن النتائج الأولية للتعداد العام للسكان في العراق المتحدث باسم الجنائية الدولية: ضرورة تعاون الدول الأعضاء بشأن اعتقال نتنياهو وغالانت 16 قتيلاً جراء الفيضانات والانهيارات الأرضية في سومطرة الأندونيسية الدفاعات الجوية الروسية تسقط 23 مسيرة أوكرانية خسائر كبيرة لكييف في خاركوف الأرصاد الجوية الصينية تصدر إنذاراً لمواجهة العواصف الثلجية النيجر تطلب رسمياً من الاتحاد الأوروبي تغيير سفيره لديها