الملحق الثقافي:د. عبد الهادي صالحة:
تحدد المراجع الثقافية هويتنا والطريقة التي نبني بها الواقع؛ إنها تؤثر على إدراكنا لأنفسنا، والطريقة التي نلتقي بها، وطرق تفاعلنا مع العالم. وتمارس وسائل الإعلام تأثيراً كبيراً ليس فقط على ما نفكر فيه ولكن أيضاً على الطريقة التي نتصرف بها. إن التنوع الحضاري والثقافي عامل إثراء لتقدم البشرية وتطورها، وإنه لمن الضروري تفعيل الحوار بين الحضارات وتوسيعه، والأخذ في الحسبان التعددية الحضارية والثقافية وتجنب ادعاء حضارة ما بالتفوق أو الرغبة في الهيمنة على غيرها من الحضارات.
نحن نمضي في ظل سيطرة العولمة إلى قبضة الاحتكارات المسيطرة على الدول وإمبراطوريات الإعلام الموجهة.. إنه نمط من الاستعمار لا يختلف في شيء عن الاستعمار القديم والحديث، لا بل يتطابق معه تطابقاً تاماً في كل أهدافه.. إنها إمبراطوريات مسخرة لخدمة مشاريع إمبريالية جديدة تضع تحت تصرفها شركاء متحالفين معها بغاية الإبادة المعنوية والروحية التي تتركز على الهوية الثقافية وقيم العقيدة الدينية، وذلك لأن إحداث تفسخ وشرخ في الثقافات القومية والعقائد الدينية ومنظومات القيم الأخلاقية، يدفع الشعوب والأمم إلى الشعور بهوية غائمة أو غائبة، ويجبرها لضعفها وضياعها وغياب وعيها بذاتها على السير وراء حاجات الغرائز والشهوات والاستهلاك المادي بكل أنواعه.
إن العولمة ليست مجرد مال وصناعات متقدمة، وإنما إرادات وبرامج تبحث عن التحقق والتنفيذ ضمن أطر محددة ومرسومة بدقة متناهية. إن للعولمة أهدافاً موصولة تطال ثقافات الشعوب وهوياتها القومية والوطنية وتهدد مصالحها من خلال تعميم أنموذج من السلوك وأنماط العيش، ومن ثم فهي تحمل ثقافة غازية لثقافات ومجتمعات أخرى تهدف إلى تخريب منظومات قيمية وإحلال قيم أخرى محلها، وهذا كله يرتكز على احتلال العقل والإرادة والعواطف والحاجات والرغبات الواعية واللاواعية، وجعلها تعمل وفق أهداف الثقافة الغازية، وفي إطار خططها ومصالحها القريبة والبعيدة، وبذلك تستلب قهرياً قوة الفرد والدولة معاً، وتنتزع كل مقوماتها الحضارية بعد أن تشل كل منافذ الوعي والإرادة والقوة وطاقات الروح والجسد، وتصادر الضمائر ومناهج التفكير.
تحدي الهيمنة
لقد انفرد الغرب بضغط إعلامي كثيف، إذ إن 85 % من الأنباء المتداولة تصل إلى سكان العالم عن طريق خمس وكالات أنباء غربية. إن العولمة ليست مجرد عملية اقتصادية ومالية وتكنولوجية، بل تحدياً يدعو للهيمنة. إنها تسعى إلى فرض التبعية الثقافية من خلال الاختراق والغزو الثقافيين واستقطاب الأجيال الصاعدة بدغدغة غرائزها وتوجيه ميولها وزعزعة ثقتها بنفسها، ومن ثم محو شخصية الآخر ومقومات ثقافته. إنها تستهدف إذاً الشخصية الثقافية والتنوع الثقافي الذي يقوم عليه غنى الحضارة الإنسانية، وهذا بعد عدواني خطير يشكل اختراقاً للاتفاقيات الدولية ولحقوق الشعوب في المجال الثقافي، وخطورة على الثقافات القومية والعقائد الدينية.
إن أشد مقومات العولمة تأثيراً هو تغيير طبيعة المجتمع من الصناعي إلى المعلوماتي الذي لا يقتصر على مكان أو ثقافة واحدة، ففي عالم اليوم حضارة واحدة أمريكية – رأسمالية تخطت حدودها لتؤثر في العالم. والعولمة وسيلة أساسية في هذا التخطي. لقد أصبح الإعلام في ظل العولمة الاقتصادية يخضع الثقافات لوسائط الإعلام ذات الهيمنة الأمريكية التي تتعاظم سلطتها وفق إيقاع ربط كل شبكات الاتصال الإلكترونية. فالصدام بين الحضارات الذي ينسب إلى هنتنغتون يجب أن يتحول إلى حوار بين حضارات تتحد للقضاء على الهيمنة الأمريكية وتصحح مسار العولمة. والحال فإن مثل هذا التعزيز لوسائل الاتصالات يساهم في تعميم أنماط الاستهلاك السائدة في البلاد الغنية، ونشر أنماطهم الثقافية واستلاب هويتهم. وهكذا فإن العولمة الاقتصادية تجازف بأن تصبح أداة لاستعباد الشعوب إذا لم تترافق بضرورات التضامن التي تهتم بمستقبل البشرية.
إن التفاعل المتزايد بين الشعوب والتدفق الحر للمعلومات والاعتماد الثقافي المتبادل هي من نتائج هذه العولمة. ويعد التواصل عبر الاختلافات الثقافية أحد التحديات الحاسمة في العالم المعاصر. لذلك فإن لوسائل الإعلام دور وسيط حقيقي تلعبه في تشجيع الوعي العالمي والحوار والتفاعل وقابلية الإنتاج والإبداع الحضاري، لأن الحوار والتفاعل يؤديان إلى معرفة الآخر والتوازن بين القيم والأخلاق والمفاهيم. وهذا الحوار يتطلب سلوكاً حضارياً تساهم فيه وسائل الإعلام بشكل فعال في تحديد الكيفية التي يتم بها تحويل السمات والقيم المشتركة إلى قاعدة للتواصل والاتصال القائمة بين الحضارات.
أولوية الحوار
لقد أدى ظهور نموذج جديد في العلاقات الدولية، جزئياً بفضل إطلاق الحوار بين الحضارات في عام 2001، إلى ظهور أجندة عالمية أصبح فيها مفهوم الحوار مبدأً ذا أولوية في العلاقات بين الحضارات والثقافات والشعوب. وإن الغرض من هذه الأجندة العالمية هو تطوير معايير أخلاقية مشتركة للتعامل مع التهديدات التي يتعرض لها السلام والأمن. ويؤكد هذا الالتزام على مدى ضرورة الحوار الدولي واحترام التنوع لتعزيز حقوق الإنسان. فقد تم اعتماد الإعلان العالمي بشأن التنوع الثقافي في عام 2001 للاعتراف بالتنوع الثقافي باعتباره تراثاً مشتركاً للإنسانية، وكذلك للإمكانيات التي يوفرها الحوار بين الثقافات. وينص الإعلان في ديباجته على أن “الثقافة يجب أن تعتبر مجموعة السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية المميزة التي تميز مجتمعاً أو جماعة اجتماعية، وأن تشمل، بالإضافة إلى الفنون والآداب، أنماط الحياة، وطرق العيش المشترك، ونظم القيم، والتقاليد والمعتقدات”.
وقد تم استكمال هذه الأحكام في عام 2005 باتفاقية حماية وتعزيز تنوع أشكال التعبير الثقافي، التي تؤكد المادة 2 منها على الترابط بين التنوع واحترام الحريات الأساسية في هذه الشروط: مثل حرية التعبير والإعلام والاتصال، وكذلك إمكانية اختيار الأفراد لأشكال التعبير الثقافي مضمونة. وبالنظر إلى الأطر المرجعية التي تم إنشاؤها على هذا النحو، من المهم التأكيد على أن استخدام المعلومات والاتصالات لضمان وجود مساحة للثقافات المختلفة للتعبير عن نفسها بحرية، وفقاً لقواعدها الخاصة، هو أهمية حاسمة لتعزيز التفاهم المتبادل بين الشعوب وبين الثقافات.
إن وسائل الإعلام لديها القدرة على تسهيل هذا الحوار بين الثقافات. من خلال تحدي المواقف المشتركة والأفكار المسبقة حول العديد من “الآخرين” في عالمنا، يمكن لوسائل الإعلام تجاوز الكليشيهات المحددة مسبقاً ودرء الجهل الذي يولد عدم الثقة والشك، وبالتالي تعزيز التسامح وقبول الاختلاف. وتقدير التنوع كمصدر للتفاهم. وإن إحدى الصعوبات الرئيسية في تعزيز حرية التعبير، والعقبة التي غالباً ما يتم مواجهتها على طريق التسامح والتفاهم، هي التوتر الذي ينشأ عندما يسيء التعبير أو يتحدى الثقافة أو الهوية.
لقد خصصت اليونسكو، خلال الدورة 174 مساحة للنقاش، تم فيه التأكيد على الروابط المتبادلة والعلاقة التي لا تنفصم بين حرية التعبير واحترام المعتقدات والرموز الدينية. وفي هذه المناسبة، اعتمد المجلس التنفيذي لليونسكو بالإجماع قراراً يدافع عن ممارسة حرية التعبير بروح من الاحترام المتبادل والتفاهم، وحث على الاحترام المتبادل للتنوع الثقافي والمعتقدات الدينية والرموز الدينية، وسلط هذا النقاش الضوء على الدور الذي يمكن أن تلعبه وسائل الإعلام في إبراز الاختلافات أو خلق المعرفة عن الآخرين وتاريخهم من أجل تعزيز التفاهم بين الثقافات المختلفة والمتنوعة.
إن احترام الاختلاف الذي يسير جنباً إلى جنب مع الحفاظ على حرية التعبير، سيظهر دائماً على أنه توتر يجب أن يكون موضوعاً للنقاش والتفاوض في أي مجتمع ديمقراطي، حتى الكلام الوحشي هو حق، طالما أنه لا يقوم على نية التحريض على التمييز أو العداء أو العنف. ويجب الحكم على أي محاولة لتقييد الحق في حرية التعبير وفقاً لهذا المعيار.. ومع ذلك، يجب أيضاً احترام حقوقنا في أمور الدين والثقافة. لا يوجد تسلسل هرمي بين حقوق الإنسان المختلفة. إنهما في علاقة عقدية، وهذا هو بالضبط الاحترام المتبادل لجميع الحقوق الذي يضمن للجميع كرامتهم.
وإنه لمن الأهمية بمكان إدراك أن التنوع الثقافي يُثري بتجربة ومساهمة جميع الأمم والثقافات والسكان. ويعزز التنوع الثقافي القيم العالمية ويخلق أرضية مشتركة لا يمكن لأي ثقافة أن تدعي احتكارها بمفردها. وبالطبع، يمكن أن يكون التنوع مصدراً للانقسام وعدم التسامح وحتى العنف، ولكن وسائل الإعلام الحرة والتعددية والمهنية توفر منتدى للتفاوض السلمي حول هذه الاختلافات.
التاريخ: الثلاثاء13-10-2020
رقم العدد :1016