الثورة – نيفين أحمد:
في تحول نوعي يعكس تبدّل موازين القوى في المنطقة جاء القرار الأميركي الأخير ليل الخميس – الجمعة، الداعي إلى مراجعة العقوبات المفروضة على سوريا كإشارة سياسية بالغة الأهمية، فواشنطن التي كانت لعقود تُعرف بمواقفها الصارمة تجاه دمشق وجدت نفسها اليوم أمام واقع جديد فرضته القيادة السورية برئاسة الرئيس أحمد الشرع بعد سلسلة من التحركات الدبلوماسية الدقيقة التي أعادت تموضع سوريا إقليمياً ودولياً.
اللافت أن القرار لم يصدر بضغط خارجي، بل بطلب من وزارة الخارجية الأميركية نفسها في مشهد غير مسبوق منذ بدء العقوبات الغربية على سوريا، هذا التحول كما يصفه الدكتور صدام الحمود، المحاضر في جامعة “ليفربول” ببريطانيا: “يُعد اعترافاً متأخراً من واشنطن بفشل سياسات العزل والعقوبات وبنجاح القيادة السورية في تحويل الضغط إلى فرصة لإعادة بناء الدولة ومكانتها”.
ويشير الدكتور الحمود، في حديثه لصحيفة “الثورة”، إلى أن المزاج الأميركي لم يكن معزولاً عن سياق أوسع؛ بل جاء متزامناً مع خطوات أوروبية مشابهة أبرزها قرار بريطانيا قبل أسابيع – إزالة اسم الرئيس الشرع من قائمة العقوبات – في إشارة واضحة إلى انفتاح دبلوماسي غربي جديد على دمشق.
ولكن السؤال الأبرز هو: كيف حول الرئيس الشرع رؤية واشنطن من فرض العقوبات إلى المطالبة برفعها؟
تعزيز الشرعية الداخلية والدولية
يرى الدكتور الحمود أن القرار الأميركي يكرس مرحلة جديدة من الشرعية السورية القائمة على الإنجاز لا على الخطاب، فمنذ تسلم الرئيس الشرع مقاليد الحكم سعت الدولة إلى ترسيخ مفهوم “الشرعية من الفعل” عبر استعادة السيطرة على كامل الجغرافيا السورية وتثبيت الأمن الداخلي، ما منح المواطن شعوراً بالثقة والاستقرار بعد سنوات من الحرب والضغوط.
ويشير الحمود إلى أن هذا التماسك الداخلي انعكس في الخارج، إذ باتت سوريا يُنظر إليها مجدداً كدولة فاعلة لا كحالة استثنائية، وقد عبّر مندوب سوريا الدائم في مجلس الأمن، إبراهيم علبي، مؤخراً عن هذا التوجه بقوله: إن “سوريا اليوم تتحدث بلغة القانون والسيادة وليس بلغة التبعية”.
هذا الخطاب بحسب الحمود هو ما جعل العواصم الغربية تُعيد النظر في مواقفها السابقة.
وفي المقابل نقل المندوب الأميركي في المجلس، مايك والتز، أن “الإدارة الأميركية تدرس مراجعة أدواتها تجاه سوريا بما يخدم المصالح الإنسانية والاستقرار الإقليمي”؛ وهو تصريح يُعدّ الأول من نوعه منذ بدء العقوبات عام 2011 ويعكس وفق تحليل الحمود، إدراك واشنطن أن مقاربة العزلة لم تعد واقعية.
الاستثمار في الدبلوماسية
هذا التحول هو حصيلة عمل دبلوماسي سوري هادئ ومتراكم، بدأ بإعادة الانفتاح على “الجنوب العالمي” من بوابة البرازيل حيث حملت الزيارة الأخيرة للرئيس الشرع رسائل سياسية واضحة تؤكد أن سوريا لا تبحث عن حلف جديد بقدر ما تبحث عن توازن جديد.
الخارجية السورية وفق تحليل الأكاديمي بجامعة “ليفربول”، أدارت هذا الملف بدهاء سياسي، فبينما تمسكت بثوابتها تجاه السيادة فتحت قنوات اتصال مع دول في أفريقيا وأميركا اللاتينية وآسيا حتى باتت دمشق اليوم قادرة على مخاطبة واشنطن ولندن من موقع الندّية لا التبعية.
وقد عبّرت الخارجية السورية مؤخراً في بيانها عن أن “أي مراجعة للعقوبات يجب أن تُبنى على أساس احترام السيادة السورية”، في تذكير بأن الانفتاح لا يعني التنازل.
مستقبل العقوبات الاقتصادية
المسار الطبيعي القادم، وفي هذا الإطار يرى الدكتور الحمود، أنه سيكون نحو تخفيف تدريجي للعقوبات الاقتصادية بدءاً من القطاعات الإنسانية والطبية مروراً بملفات التحويلات المالية والطاقة.
وفي معرض حديثه يلفت الحمود، إلى أن “الولايات المتحدة باتت تواجه ضغوطاً داخلية من الكونغرس ومنظمات المجتمع المدني التي ترى أن العقوبات لم تضعف الدولة السورية، بل أرهقت الشعب”.
من جهة أخرى، قانون “قيصر” الذي كان رمزاً للضغط الأقصى يُعاد تقييمه اليوم داخل واشنطن.
و“ما يجري هو بداية النهاية لتلك الحقبة”، يقول الدكتور الحمود، مشيراً إلى أن دمشق تتعامل مع هذا التطور بثقة من يدرك أن رفع العقوبات ليس منّة بل نتيجة فرض واقع سياسي جديد.
النموذج السوري الجديد
هذا النجاح الدبلوماسي بمفهوم “العمران الوطني” الذي طرحه الرئيس الشرع والقائم على معادلة “العمران = الإنسان + البنيان”، يربطه الحمود بـ “ما حققته سوريا على الصعيد الخارجي هو انعكاس لنجاحها الداخلي في إعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع، فالمواطن السوري اليوم يرى في بلده مشروع نهوض لا مجرد إدارة أزمة”.
هذا النموذج قدّم رؤية مغايرة لما سُمّي سابقاً “مرحلة ما بعد الثورة”، إذ لم يقتصر على إعادة الإعمار المادي، بل شمل تجديد المؤسسات وإعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمواطن، وعلى أساس قاعدة “حين يستقر الداخل تُفتح أبواب الخارج”.
من الحصار إلى التأثير، يؤكد الدكتور الحمود، أن القيادة السورية الجديدة نقلت البلاد من موقع الدفاع إلى موقع الفعل. سوريا لم تعد تُستهدف بل تُستشار، فبعد سنوات من الحصار تحولت دمشق إلى عاصمة يُحسب لها حساب في ملفات الطاقة واللاجئين والأمن الإقليمي.
ويستشهد الدكتور بتصريح المندوب البريطاني في مجلس الأمن، جيمس كاريوكي، الذي أقرّ بأن سوريا استعادت موقعها الإقليمي ولا يمكن تجاهل دورها في استقرار الشرق الأوسط، معتبراً ذلك مؤشراً إلى تبدل الموقف الأوروبي، كما ينوه إلى أن القرار البريطاني بإزالة الرئيس الشرع من قائمة العقوبات “لم يكن مجرد إجراء إداري، بل خطوة سياسية محسوبة تُمهّد لانفتاح أوسع”.
تحول استراتيجي في موقع سوريا الدولي
بعد القرار الأخير لمجلس الأمن، لم يعد المجتمع الدولي قادراً على التعامل مع سوريا بالمعايير القديمة، فبفضل شبكة العلاقات التي بنتها سوريا خلال الأشهر العشرة الفائتة، أصبحت دمشق عنصر توازن في النظام الإقليمي الجديد.
هذا التموضع_ كما يوضح_ فرض على مجلس الأمن أن يبحث عن صيغة جديدة للتعامل، تقوم على الحوار بدل الإملاء، فسوريا اليوم تمتلك ما يُسمى “قوة التوازن الذكية”، أي القدرة على المناورة بين الأقطاب من دون أن تفقد استقلال قرارها.
في هذا السياق، يتوقع الدكتور الحمود أن تشهد المرحلة المقبلة خطوات متدرجة نحو الانفتاح تبدأ بتبادل الوفود الاقتصادية والإنسانية يليها حوار سياسي محدود النطاق. ويضيف أنه ” على الخارجية السورية أن تتعامل مع هذا الملف بحذر محسوب، حيث أكدت في آخر بيان لها أن رفع العقوبات لن يكون بديلاً عن الحوار السياسي، بل نتيجة له وهو ما يعكس نضجاً في مقاربة الملفات الكبرى”.
وفي ظل تشكل نظام دولي متعدد الأقطاب، يرى الدكتور الحمود أن سوريا باتت من الدول التي تقدم “نموذج الحياد الإيجابي” فهي لا تنحاز كلياً لأي محور، بل تبحث عن توازن يخدم مصلحتها الوطنية؛ بل أيضاً دمشق اليوم تتحدث بلغة التوازن وهذا ما يجعلها جسراً بين الشرق والغرب لا طرفاً في صراعهم.
هذا التوجه ينسجم مع التحول العالمي نحو الشراكات المرنة بدل التحالفات الجامدة، الأمر الذي يفسر ازدياد عدد الدول التي تسعى لتطوير علاقاتها مع سوريا في مجالات: الطاقة، الإعمار، التعليم، والثقافة.
الدبلوماسية السورية: فن البقاء والاختراق
ويبيّن الدكتور الحمود، أن “الدبلوماسية السورية أثبتت أنها مدرسة في الصبر والمناورة”، فمن داخل الحصار ووسط العزلة نجحت دمشق في تحويل خطابها من الدفاع إلى المبادرة.
“اليوم باتت العواصم الغربية تتحدث عن سوريا بلغة الاحترام لا التهديد”.
المندوب السوري في مجلس الأمن، إبراهيم علبي، عبر عن هذه الروح الجديدة حين قال: “نحن لا نطلب رفع العقوبات كتنازل بل كتصحيح لمسار دولي ظالم”، وهي عبارة تلخص جوهر المرحلة المقبلة.
لذلك، ما جرى ليس مجرد تعديل في الموقف الأميركي، بل “انعطافه في التاريخ السياسي الحديث لسوريا”. فدمشق التي صمدت في وجه العزلة نجحت اليوم في تحويل خصوم الأمس إلى شركاء محتملين وفرضت واقعاً جديداً عنوانه التوازن والسيادة.
ويختم الدكتور الحمود بالقول: “الرئيس الشرع لم يغير فقط نظرة واشنطن إلى دمشق، بل أعاد تعريف العلاقة بين الشرق والغرب في زمن التعددية الجديدة، سوريا اليوم ليست موضوعاً في القرارات الدولية بل طرف فاعل في صياغتها”.