الملحق الثقافي:وائل حمشو :
عندما كانت دولتا فرنسا وبريطانيا سيدتا العالم، اعتمدتا على احتلال المستعمرات والجزر للسيطرة على العالم، ولكن أميركا اعتمدت استراتيجية السيطرة على الفكر، وعندما تسيطر على الفكر، فإنك تسيطر على العالم. والولايات المتحدة تمتلك ماكينات إعلامية عملاقة، تستخدم أحدث تقنيات علم النفس والتكنولوجيا. وقد استطاعت، بما تبثه، أن تؤثر على المجتمع العالمي أجمع، وعلى المجتمعات الضعيفة بشكل خاص، لكي تخضعها لثقافتها من خلال كثافة انتقال المعلومات وسرعتها.
أمام هذا الطغيان الأمريكي، دخل الإعلام المحلي للدول في صراع غير متكافئ مع إعلام الولايات المتحدة الذي تقوده شركات عملاقة، تصارع العالم لكي تضمن تفوقها التقني الذي هو كلمة السر في سياسة الهيمنة بكل أشكالها.
عندما نستخدم مصطلح “الإعلام الثقافي”، فأول ما يتبادر إلى أذهاننا أخبار النشاطات الثقافية في المراكز الثقافية أو إصدارات الكتب الجديدة.. وما إلى ذلك. لكن الإعلام الثقافي في العمق هو تلك السلوكيات الإعلامية التي تفتح فرصاً هائلة لتحرر الإنسانية من مراقبات تشكل عائقاً أمام تقدم الشعوب. والكم الهائل للمعلومات التي تؤدي إلى الازدهار المادي والنفسي الذي يخلق تدفق الثروة ويوسع سوق الإنتاج. كل ذلك يحدث في غياب نظام للعدل وإعادة توزيع الموارد، فتتركز هذه الثروة المادية والثقافية في أيدي القلة التي سوف تتحكم بالسياسات على قواعد غير إنسانية. فالإعلام الثقافي ليس بالضرورة أن تكون له صفة تحررية، بل هو صراع، يحدد النجاح فيه الوضع الاجتماعي للجماعات وموقعها في معركة السيطرة على موارد الثورة التقنية والعلمية. والمنتصر في هذا الصراع يفرض ثقافته على المجتمعات الأخرى ويسلبها ثقافتها. وتستمد النخب قوتها وتميزها من تبني تلك الثقافات التي لا تخضع للقيم الوطنية ومعاييرها.
وهذا ما يفسر انتشار الفساد وانحلال الروابط الوطنية في المجتمعات الضعيفة. ورغم ذلك لا يمكن تجاهل الانخراط فيها، لأن التجاهل يكمن وراءه القدر نفسه من التسليم الأعمى بها.
فالانفتاح قد يؤدي إلى ذوبان الثقافة والوطنية في ثقافة عالمية تنتشر فيها قيم وسلوكيات مختلفة. وقصور ثقافتنا عن مواكبة العصر، يجعلنا منغلقين على التغيرات الكبرى.
نحو التوازن
الإعلام الثقافي في العالم العربي حتى اليوم لم يعتمد نهجاً ثقافياً في تحقيق التوازن بين الانخراط والعداء في سلوكياته الإعلامية. ولم يفكر في إعادة بناء المؤسسات الإعلامية القادرة على التعامل مع الآخر بندية ونسيان سيطرته علينا، لكي نعطي فرصة لإبداعنا الذاتي.
إن التحدي الأكبر لإعلامنا الثقافي بشكل خاص والإعلام العربي بشكل عام، يكمن في رفض غريزة القطيع والسير خلف الثقافة الغربية، ومقاومتها من خلال خلق مناعة ثقافية عربية أساسها تراثنا العربي، قادرة على التأقلم مع المتغيرات والمستجدات. وإلا فسوف نفقد هويتنا وكذلك مناعتنا الثقافية العربية. وبالتالي فإن القوة في إعلامنا الثقافي لن تتحقق طالما أن حرية الفكر ما زالت تعتبر من الوسائل المهددة للتابوات والمحظورات القائمة في عالمنا العربي. وما زال الخناق يشدد على كل من يخالف المعتقدات السائدة. فالتحرر هو التخلص من السائد والانطلاق إلى الإبداع.
ومن هذا المنطلق تتحقق حرية الفرد عبر تجاوزه أوهامه، وعبر تكييفه لواقعه بصفته إنساناً حراً. عندها يتحول الإنسان إلى ناقد لواقعه من دون خوف، ويتحقق الحد الأدنى من التوازن في الصراع ضد السيطرة الإعلامية الخارجية، وضد الذات وضعفها.
بين مصطلحين
مصطلح الإعلام، هو مصطلح واضح المعالم، ويطلق على أي وسيلة أو تقنية أو مؤسسة تجارية ربحية أو غير ربحية، عامة أو خاصة، مهمتها نشر الأخبار ونقل المعلومات بكافة أشكالها.
بينما مصطلح الثقافة، هو مصطلح غير واضح المعالم، فهو سلوك اجتماعي ومعيار موجود في المجتمعات البشرية، وقد يختلف مفهومه باختلاف المجتمعات البشرية. وقد تم التعارف على أن مصطلح “الإعلام الثقافي”، يشير إلى رصد ما يدور في الساحة الثقافية وتبليغها للمتلقي عن طريق الوسائط الإعلامية المعروفة.
فالإعلام الثقافي كمصطلح، مهمته مجرد الإخبار عن النشاطات والإضاءة عليها، وبالتالي هو لا يصنع حالة ثقافية فاعلة في المجتمع. وللأسف الشديد، ورغم أننا لا ننكر أهمية دور الموسيقا والدين والسياسة في الحياة، إلا أننا نشاهد أن أكثر من 90% من الوسائل الإعلامية تهتم بهذه الجوانب فقط.
ورغم تأكيد علم النفس الثقافي والاجتماعي على دور الثقافة في المجتمع ومكانتها في تشكيل وعي الفرد، فما زال الإعلام الثقافي في بلادنا يكتنفه الغموض في كيفية تشكل النتاج الثقافي وعوامله وما يحمله من بعد نفسي.
فالإعلام الثقافي لا ولن يلعب دوراً إيجابياً في نشر الوعي والارتقاء بالمجتمع، ما لم يعالج التابوات الموجودة في مجتمعاتنا، ويخطو بثقة نحو بناء المجتمع بناء سليماً.
إن عدم غوص الإعلام في جوهر المشكلة الماكثة في الواقع وعدم تصديه لها، أدى إلى ضمور ثقافي وترهل في رؤية الدور الذي على الإنسان أن يلعبه في هذا العالم، بوصفه جزءاً منه. وإن تمدد التابوات يمنع الإعلام من مناقشة المشاكل الناجمة عنها، ويؤدي إلى ظهور الهرطقة، وعدم تشكل ثقافة راقية قادرة على الصمود والانتقال إلى مرحلة اجتماعية أرفع.
ضد التابوات
أدى إحجام الإعلام الثقافي عن القيام بدوره في نبذ التابوات، إلى جعله غير قادر على تشكيل ونشر تيار عقلي نقدي يحرر حركة العلم وينشط التفكير الحر. إن ما ينفع الناس هو ما يبقى على الأرض، وما لا ينفع يصبح هباء، ومعظم البث الإعلامي يذهب هباء، لأننا لا نجد أي دور للإعلام الثقافي في صناعة نموذج ميداني للإنسان قادر على المشاركة في صناعة حضارة هذا العصر.
درج الناس على بناء تصوراتهم الخاصة عن أنفسهم وعما هم عليه، وعمن ينبغي أن يكونوا، ونظموا علاقاتهم وفقاً للأفكار التي كونوها عن الوجود ككل. فالأشباح المتشكلة في أذهان الناس هي من صنعهم، وها هم ينحنون لها مع أنهم من خلقها. ومهمة الإعلام الثقافي تحريرهم من الأوهام التي ينوءون تحت نيرها. مهمة الإعلام الثقافي اختراق التابو وتسليط أشعته على مكامن الخطأ وتعرية فساد التقاليد التي تشدنا إلى الوراء. لذلك فإن الإعلام الثقافي مطلوب منه الكثير، ولكنه لم يفعل إلا القليل.
التاريخ: الثلاثاء13-10-2020
رقم العدد :1016