الثورة أون لاين – علي اسماعيل:
لنبدأ من الانقلاب الأبيض الذي حدث في ميانمار ليمسك الجيش البورمي بزمام السلطة ويبدأ ببسط سيطرته بسهولة على البلاد دون أي اكتراث بالتصريحات الأميركية والغربية والتي قابلها هدوء مريح من قبل بكين الجارة الأكبر لميانمار.
أهمية الحدث يكمن في الموقع الاستراتيجي المهم وما تمتلكه ميانمار من موانئ حيوية مهمة على المحيط الهندي والذي يشكل ساحة الكباش العالمي بين الصين والولايات المتحدة الأميركية لتكون حرب سيطرة على ثالث أكبر محيط في العالم وأهم نقاط عبور النفط العالمي والتجارة بين الشرق والغرب.
وبينما تتفاعل السجالات الأكاديمية والطروحات البحثية العلمية تذهب لوبيات القرار الأميركي باتجاه آخر ونحو استراتيجية جديدة لمواجهة الخطر الأكبر عليها وعلى ريادتها العالمية المتمثل بالتنين الصيني لتعمل بصمت ضمن استراتيجيتها البحرية الجديدة المعنونة بـ”الاستراتيجية التعاونية لقوة البحر في القرن الواحد والعشرين”، حيث تركز الولايات المتحدة على دور قواتها البحرية في دعم سيطرتها العالمية، بهدف تأمين القدرة على التدخل ما وراء البحار، عبر نشر المزيد من قطعاتها البحرية حول العالم، وتعزيز تحالفاتها القائمة وبناء تحالفات جديدة والمشاركة في المناورات العالمية، وصنع الوكلاء عبر العالم وخصوصاً في المنطقة الهندو آسيوية، ولتحقيق أهداف استراتيجيتها، تعمل واشنطن على تقوية التعاون مع حلفائها التاريخيين كأستراليا، اليابان، نيوزلندا، كوريا الجنوبية وتايلاند، كما تسعى لإقامة شراكات جديدة مع دول أخرى في المنطقة مثل بنغلادش، بروناي، الهند، إندونيسيا، ماليزيا، سنغافورة، وفييتنام، والسيطرة على كل الممرات البحرية المهمة أو مراقبتها على أقل تقدير.
أما الصين فقد حصلت على العديد من امتيازات استغلال الموانئ البحرية في المُحيط الهندي مثل موانئ: جوادر في باكستان، كياوكبيو في ميانمار، هامبانتوتا في سيريلانكا، لتفك الطوق الأميركي عليها في بحر الصين الجنوبي لأن من شأنه منع وصول 70% من النفط للصين، وتعطيل ثلثي الواردات الصينية، إضافة إلى 40% من مشتقات الطاقة القادمة مِن الشرق الأوسط وشمال إفريقيا عبر الهند، في حال حصول صدام كما أطلقت مبادرة طريق الحرير الجديد ، فسعت لتنفيذ مشاريع في 60 دولة في مختلف أرجاء العالم، منها استثمارات في بناء طرق وسكك حديدية وموانئ في نيبال، وبناء جسور ومطارات في باكستان وسريلانكا والمالديف، من الممكن استخدامها لأغراض عسكرية واستراتيجية وذلك للحصول على نقاط متقدمة في مواقع استراتيجية حيوية تخدم التمدد الصيني سياسياً واقتصادياً وعسكرياً إذا لزم الأمر.
الأميركيون استشعروا الخطر الصيني من خلال تحركات عديدة وخاصة عندما حصل الجيش الصيني على أولى قواعده العسكرية في أوبوك بجيبوتي عند مدخل البحر الأحمر، على واحد من أهم الممرات الاستراتيجية الرئيسة والتي تبعد بضعة أميال فقط عن قاعدة عسكرية أميريكية رئيسة وهي “معسكر ليمونيه”، فقامت واشنطن بخطوة مضادة من خلال توجيه الإمارات والكيان الصهيوني لبناء عدد من قواعد التجسس في جزيرة سقطرى اليمنية بأوامر أميركية هدفها الظاهر والادعاءات المسوغة لها هي المراقبة الإلكترونية للقوات التابعة للتحالف العسكري بقيادة السعودية التي تشن عدواناً على اليمن ومراقبة تحركات طهران والجماعات المتشددة مثل داعش والقاعدة، إلى جانب تحليل الحركة البحرية والجوية في جنوب البحر الأحمر، ولذلك يبحث الساسة الأميركيون دائماً عن نظريات ومرجعيات وأبحاث علمية يستندون إليها للحفاظ على ما أطلقوا عليه التفوق الأميركي المهيمن باعتبارها تمتلك من بيرو في القارة الأميركية الجنوبية إلى ألمانيا في أوروبا مروراً بالخليج العربي، حوالي 800 قاعدة في 70 دولة وإقليم في أنحاء العالم، تتراوح بين قواعد كبيرة ومرافق الرادار الصغيرة، أي ينتشر حول العالم نحو 200 ألف جندي أميركي خارج حدود بلدهم، ويتمركز من بينهم ما بين 60 إلى 70 ألف جندي في منطقة الشرق الأوسط.
طبعاً مراكز الدراسات الأميركية بباحثيها ومنظريها يرون أن السياسة الأميركية منذ نشأتها تستند إلى استراتيجيتين أساسيتين متناقضتين هما استراتيجية التوازن من وراء البحار أو التوازن خارج المجال والاستراتيجية الثانية المسماة استراتيجية الهيمنة الليبرالية.
الباحثان الاستراتيجيان الأميركيان البروفسور جون ميرشايمر أستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاغو والبروفسور ستيفن والت أستاذ العلاقات الدولية بكلية جون كنيدي للدراسات الحكومية بجامعة هارفارد واللذان يعتبران من أشهر المنظرّين الأميركيين المعاصرين في السياسة الدولية أكدا أن النظرية الأولى هي النظرية الاستراتيجية الأمثل لإدامة التفوق الأميركي في المستقبل المنظور وذلك من خلال الحفاظ على هيمنة الولايات المتحدة في القسم الغربي من العالم ومواجهة مهيمنين محتملين في أوروبا وشمال شرق آسيا ومنطقة الخليج ووفق دراسة مترجمة لهما نشرتها مجلة الشؤون الخارجية الأميركية حملت عنوان: (التوازن خارج المجال : استراتيجية التفوق الأميركية الكبرى ) والتي تقول : ( بدلاً من سياسة العالم وحراسته، سوف تشجع الولايات المتحدة بقية البلدان على أخذ زمام المبادرة لمراقبة -وعرقلة- القوى الصاعدة، والتدخل لحظة الضرورة ووفق وهذا لا يعني التخلي عن مكانة الولايات المتحدة باعتبارها القوة العظمى العالمية الوحيدة أو التراجع إلى “قلعة أميركا” المحصنة خلف محيطين. بل عبر ادّخار قوة الولايات المتحدة، سوف تُحافظ استراتيجية “التوازن من وراء البحار” على الريادة الأميركية لأمد بعيد في المستقبل، كما أنها تُحافظ على مكسب الحرية داخل الديار.).
استراتيجية “التوازن من وراء البحار” التي اعتمدتها الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية لا تمنع التدخل المباشر لتغيير موازين القوى بل تدخره لوقت تظهر فيه قوة منافسة في مناطق النفوذ المهم بالنسبة إليهم أي إنها تصنع قوى محلية إذا لم تكن موجودة سابقاً تابعة لها تتولى مهمة إحباط القوى المنافسة للعم سام مقابل دعم لوجستي كامل.
أما استراتيجية الهيمنة الليبرالية فظهرت بعد أن انفردت واشنطن في صدارة القوة العالمية وأصبحت في مرحلة فرط القوة العسكرية والاقتصادية والعلمية وخاصة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي.
وتعتمد هذه النظرية على التدخل المباشر بالجيوش الأميركية تحت أهداف تسوق لها إعلامياً وسياسياً ويعتبر الباحثان ميرشايمر ووالت أن رائد هذه الاستراتيجية هو “جورج بوش الابن” الذي غزا العراق.
منتقدو هذه النظرية أكدوا أن التدخل الأميركي المباشر لفرض “الهيمنة الليبرالية” نتج عنه خسائر كبيرة دون تحقيق الأهداف المرجوة فقد كلفّت حربا أفغانستان والعراق ما بين 4 إلى 6 تريليونات دولار ومقتل حوالي 7 آلاف جندي أميركي وجرح أكثر من 50 ألفاً.
إلى أي النظريات ستحتكم واشنطن وخاصة مع إدارة بايدن الديمقراطي الذي لم يفصح حتى الآن عن السياسات الأميركية الخارجية في القضايا ذات الأولوية الاستراتيجية فيما يخص الصين وروسيا وهل سيذهب نحو تجديد الصدام مع الصين الذي خلّفه ترامب أم إنه سيذهب نحو تفعيل اتفاقيات التهدئة ..؟