فوضى النظام السياسي الأميركي ونهاية القوة الإمبراطورية

الثورة أون لاين – د. ذوالفقار علي عبود:

للفوضى عواقب قاسية، وفي ظل غياب سلطة عالمية لفرض قواعد ملزمة، لا توجد ضمانات بإمكانية التحكم بسلوك الدول ولا حتى الأفراد، وفي هذه الحالة يجب على الدول توقع الأسوأ في العالم والتخطيط والتصرف وفقاً لذلك.

في معظم الأحيان، عندما تقرر الدول السياسات الخارجية التي يجب تبنيها، نادراً ما تتراجع إلى حالة الدفاع، بل تخمن السلوك المستقبلي المتوقع للدول الأخرى، وما يبدو محتملاً وضمن نطاق الممكن والمعقول.

على الرغم من أن دونالد ترامب أصبح عضواً في نادٍ حصري لرؤساء الولايات المتحدة (الذين أمضوا فترة رئاسية واحدة)، فإن رئاسة ترامب سيكون لها عواقب دائمة على قوة الولايات المتحدة ونفوذها في العالم.

فقد دشن ترامب نهجاً حطم معايير السياسة الخارجية الأميركية المعهودة، من خلال قصر النظر، التعامل الزئبقي غير الجدير بالثقة، الفظاظة، الشخصية المتغطرسة وغير الليبرالية إلى حد كبير في الخطابة.

وإذا كان معظم خبراء السياسة الخارجية والممارسين والمتخصصين في الولايات المتحدة يتنفسون الصعداء الآن، فإن مثل هذا الارتياح سوف يخفت عند إدراك حقيقة محبطة ومتجذرة في فكرة الفوضى، وهي أنه لا يمكن للعالم أن يتجاهل رئاسة ترامب، ولا يمكن، في هذا الصدد، أن يتجاهل الطريقة التي تصرف بها أعضاء الكونجرس الأميركي في الأسابيع الأخيرة من إدارة ترامب، حيث صوتوا بشكل انتهازي لإلغاء الانتخابات والمساعدة في التحريض على العنف في مبنى (الكابيتول).

منبت الخطر يكمن في أن العالم بدأ يفكر بأن النظام السياسي الأميركي يمكن أن ينتج إدارة مثل إدارة ترامب، وأن أي عمليات لإعادة تقييم هذا الوضع لن تكون في مصلحة الولايات المتحدة.

فعلى مدار 75 عاماً، ساد الافتراض العام بأن الولايات المتحدة أنشأت المؤسسات الدولية وصاغت المعايير التي قبلها العالم بشكل يعطي الأفضلية للمصالح الأميركية، واليوم بدأ العالم ينظر وبشكل متزايد إلى أن تلك المؤسسات عقيمة وتخدم مصالح الولايات المتحدة الذاتية، وشيئاً فشيئاً ستجد الولايات المتحدة العالم مكاناً أكثر خطورة وأقل ترحيباً.

بالنسبة لشركاء الولايات المتحدة في آسيا وأوروبا والشرق الأوسط، سيبدؤون في التحقق من أولويات واشنطن على المسرح العالمي، وبناء أي تفاهمات للتعاون على أساس المصالح المشتركة وليس على أساس الثقة، ولن يكون أمام الرئيس بايدن وفريقه من المحترفين ما يفعله لوقف ذلك.

من الآن فصاعداً، ستبدأ الدول، في كل مكان، بالتحوط من رهاناتها بشأن الولايات المتحدة، وهو أمر سيثير غضب الحلفاء أكثر من الخصوم، ومهما كانت الوعود التي ستقدمها الإدارة الأميركية خلال السنوات القليلة المقبلة، فإن عدم الثقة في النظام السياسي الأميركي يلوح في الأفق، وهذا ما سيدفع الدول الأخرى لإعادة التفكير في علاقاتها مع الولايات المتحدة.

وحتى بعد انتخاب بايدن – وهو أممي ليبرالي وسطي تقليدي، ينتمي لنفس مدرسة السياسة الخارجية الأساسية لكل رئيس أميركي (باستثناء ترامب) على مدى تسعة عقود – فسيتعين على الدول الآن التحوط من احتمالية عدم مبالاة وعدم مشاركة السياسة الخارجية الأميركية قصيرة النظر في حل مشاكل العالم.

البعض حاول الإيهام بأن انتخاب ترامب عام 2016 كان مجرد صدفة، إلا أن إشارات التحذير من أن الولايات المتحدة لن تكون الدولة التي كانت عليها من قبل كانت قد بدأت، ورغم أن انتخابات 2020 أدت للتخلص من ترامب كشخص، إلا أن الترامبية انتشرت في الولايات المتحدة – أو على الأقل في جزء كبير منها.

لقد ترأس ترامب عشرات الفضائح الأخلاقية، والهفوات الإجرائية الفظيعة، والأفكار الطائشة، والتي كان معظمها سينهي الحياة السياسية لأي شخصية سياسية أخرى في نصف القرن الماضي، لكن سحق المعايير داخل المجتمع الأميركي بفعل العقيدة النيوليبرالية، جعل معظم الجمهور الأميركي يتقبل تلك الفضائح، كما أن عدم الكفاءة الهائل والمرعب في تعامل الإدارة مع أخطر أزمة صحية عامة في قرن من الزمان، لم يبعد ترامب من المشهد السياسي، وبدلاً من ذلك، تعامل ترامب بشكل جاهل مع جائحة أودت بحياة أكثر من ربع مليون شخص تحت إدارته كإزعاج شخصي له، وليحاول استغلال الجائحة من أجل منفعة سياسية.

ومع ذلك، صوت 74 مليون شخص لمصلحته، بزيادة تسعة ملايين عن عام 2016 ، وهو أكبر عدد من الأصوات على الإطلاق لمرشح أميركي لمنصب الرئيس، باستثناء بايدن، الذي حصد 81 مليوناً.

لا يمكن رسم صورة للنظام السياسي الأميركي والسياسة الخارجية المستقبلية للبلاد دون تضمين الاحتمال الكبير لدور كبير لترامب، مع أو دون ترامب في المكتب البيضاوي، وبالنظر إلى أربع سنوات مقبلة، يجب على المراقبين أن يتوقعوا بأن الانتخابات الرئاسية الأميركية القادمة يمكن أن تسير بشكل مختلف تماماً، وهذا لا يبشر بالخير لمصالح الولايات المتحدة وتأثيرها في السياسة العالمية.

وكما لاحظ مارك ليونارد ، مدير المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، “إذا كنت تظن أن كل ما تفعله الإدارة الأميركية سيستمر حتى الانتخابات التالية، فإنك تنظر إلى كل شيء بطريقة سطحية.”

في الواقع، لم تكن قصة انتخابات عام 2016 تتعلق فقط بانتصار ترامب على كلينتون، فمن منظور الدول الأخرى التي تحاول تخمين مستقبل السياسة الخارجية للولايات المتحدة، فإن ما حدث في الانتخابات التمهيدية في ذلك العام كان أكثر استشرافاً لمستقبل النظام الأميركي، ففي سباق الحزب الجمهوري، نجح مبتدئ سياسي، ونجم تلفزيون واقع، ورجل أعمال مفاخر ذو سمعة مشكوك فيها، وغير مبالٍ، هذا العضو العرضي في الحزب الجمهوري، تمكن من السيطرة على ميدان سياسي يذخر بالمنافسين الراسخين، من خلال الاستخفاف بأبطال الحزب والدوس على تاريخه السياسي.

خارجياً، وبالنظر إلى معتقدات السياسة الأساسية حول المشاركة الأميركية العالمية، ولأنه حدث داخل الحزب الجمهوري، فإن هذا الاضطراب المذهل وغير المتوقع بفوز ترامب، لا يمكن أن يُعزى إلى عيوب كلينتون أو التوسع الليبرالي في الحروب الثقافية، وهي التفسيرات التي ظهرت لاحقاً بعد صدمة الانتخابات العامة، فقد حدثت مسألة مماثلة في عملية ترشيح الحزب الديمقراطي، حيث اقترب السناتور بيرني ساندرز، وهو شخص اشتراكي قديم من ولاية صغيرة، من انتزاع الفوز من يد آلة سياسية قوية مدعومة بالكامل من قبل جهاز الحزب، فما هو القاسم المشترك بين ترامب وساندرز؟ لا شيء تقريباً – باستثناء رفضهم لانخراط الولايات المتحدة عالمياً.

لقد كشفت حملة عام 2016 أن الإجماع الدولي ما بعد الحرب بين الحزبين، والذي كان راسخاً ومتزايداً لعقود من الزمن، قد تحطم، وهذه قضية مؤثرة تمثل نهاية الأممية الأميركية.
لقد كانت الشراكة الأميركية عبر المحيط الهادئ، وهي اتفاقية تجارية بعيدة المدى بين عشرات الدول المطلة على المحيط الهادئ، بما في ذلك الولايات المتحدة، هي محور إدارة أوباما تجاه آسيا، وكانت كلينتون، بصفتها وزيرة للخارجية، قد قادت المفاوضات المضنية التي أسفرت عن المعاهدة، ومع ذلك، خلال المعركة الضارية من أجل ترشيح الحزب الديمقراطي، أُجبرت على التخلي عن “الشراكة عبر المحيط الهادئ”، التي كان كثيرون في حزبها حذرين منها، وقد حظيت الاتفاقية بدعم جمهوري واسع النطاق في مجلسي الكونجرس، ثم انسحب ترامب من الاتفاقية في أول يوم اثنين له في منصبه.

واليوم، تبشر إدارة بايدن بأن مركز الثقل السياسي في الولايات المتحدة قد يتحول بعيداً عن الأممية الأميركية التي ميزت السنوات الـ 75 الماضية قبل ترامب ونحو موضع أقرب إلى الانعزالية.

وعند تقييم المسار المستقبلي للسياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية، سيتعين على المراقبين الخارجيين إجراء تقييمات لكل حزب سياسي أميركي، فحتى مع خروج ترامب من منصبه، من المرجح أن يتراجع الحزب الجمهوري عن النأي بنفسه عن ترامب، ومن المرجح أن يظل الحزب في موقفه تجاه بقية العالم، أما السياسات الخارجية للحزب الديمقراطي، فلن تقدم الكثير من الطمأنينة لدول العالم، رغم محاولة بايدن إغراق الميدان بفريق سياسة خارجية مثير للإعجاب وإعطاء كل انطباع مطمئن بأن الولايات المتحدة ستتصرف كقوة عظمى مسؤولة، قوة منخرطة مع العالم وتحترم القواعد وتتبع المعايير، لكن المراقبين يرون بأن ولايته ستكون محدودة.

بايدن الذي تم انتخابه في الغالب على أساس أنه نقيض ترامب، لديه القليل من رأس المال السياسي الثمين، ومن غير المرجح أن يستثمره من أجل أولويات سياسته الخارجية، والديموقراطيون الذين كانوا متحدين في رعبهم من رئاسة ترامب، منقسمون حول أشياء أخرى كثيرة، هناك شروخ مرئية داخل الحزب، غالباً بين الجناحين الوسطيين واليساريين في الحزب، وعلى الرغم من أنه ليس حزباً قومياً، إلا أنه يمكن وصفه بالمعولم – الحذر، أو الانعزالي – الفضول، وسوف تتفاقم الخلافات داخل الحزب الديمقراطي بالنظر إلى أن بايدن نفسه قد ألمح مراراً وتكراراً إلى أنه قد يكون رئيساً انتقالياً لفترة واحدة، فإن زملاءه الديمقراطيين سيبدؤون بسرعة في المناورة من أجل منصب في المعركة المتوقعة على قيادة الحزب، وبالتالي، فإن التنبؤ بسلوك الولايات المتحدة سيتطلب مرة أخرى النظر إلى النطاق المحتمل للنتائج السياسية بعد أربع سنوات من الآن، والأسوأ من ذلك، يجب على التقييمات الخارجية للولايات المتحدة أن تأخذ في الاعتبار إمكانية خروجها قريباً من لعبة القوى العظمى تماماً، مع أنه عند النظر إليها بموضوعية، فإن الدولة تفتخر باقتصادها الضخم وتتولى قيادة الجيش الأقوى في العالم.

ولكن هناك أسباب تدعو للتساؤل عما إذا كانت واشنطن لديها القدرة على التصرف كممثل هادف على المسرح العالمي ومتابعة مصالحها طويلة المدى، ولا تكمن المشكلة فقط في أن تنحرف السياسة الخارجية للولايات المتحدة بشكل غير متوقع من إدارة إلى أخرى.

إلا أن البلاد دخلت ما لا يمكن وصفه إلا بأنه عصر غير منطقي، حيث تتبنى قطاعات كبيرة من سكانها نظريات المؤامرة الجامحة، وتبدو الولايات المتحدة اليوم شبيهة بأثينا في السنوات الأخيرة من الحرب البيلوبونيسية، أو فرنسا في الثلاثينيات: ديمقراطية قوية ذات يوم أصبحت ممزقة وضعيفة، فرنسا التي أعطت درساً بأن الدولة المنهكة بالصراع الاجتماعي المحلي لن تكون قادرة على ممارسة سياسة خارجية منتجة أو يمكن التنبؤ بها أو جديرة بالثقة.

قد لا يتحقق هذا السيناريو البائس للولايات المتحدة، وقد لا يكون هو المستقبل الأميركي الأكثر احتمالاً، لكن منطق الفوضى يتطلب من الدول كافة فهم الاستقطاب والخلل الداخلي في الولايات المتحدة، والتفكير في الآثار المترتبة على هذا السيناريو الذي تتوقف عليه جميع الرهانات، وتخيل عالم تكون فيه واشنطن، على الرغم من قوتها الغاشمة، أقل أهمية في السياسة العالمية. سيدعو هذا الاحتمال إلى إعادة تقييم كبيرة لسلوك الولايات المتحدة.

على دول الشرق الأوسط تخيل الحياة دون مصالح عسكرية أميركية قوية في المنطقة، ففي عام 1990، رحب حلفاء الولايات المتحدة بالحرب التي قادتها الولايات المتحدة لتحرير الكويت من الاحتلال العراقي، ولو استمر هذا الغزو دون رادع ، لكان من المحتمل أن يكون العراق قد حقق هيمنة سياسية على احتياطيات النفط الهائلة لمنطقة الخليج بأكملها، وهذا ما كان سيضر بالمصالح الأميركية، ولكن اليوم، إدارة بايدن توقف دعمها للحرب على اليمن، وربما تكون هذه بادرة لانغلاق الولايات المتحدة على نفسها، لإصلاح شؤونها الداخلية.

آخر الأخبار
أهالي درعا يستقبلون رئيس الجمهورية بالورود والترحيب السيد الرئيس أحمد الشرع يؤدي صلاة عيد الأضحى المبارك في قصر الشعب بدمشق بحضورٍ شعبيٍّ واسعٍ الرئيس الشرع يتبادل تهاني عيد الأضحى المبارك مع عدد من الأهالي والمسؤولين في قصر الشعب بدمشق 40 بالمئة نسبة تخزين سدود اللاذقية.. تراجع كبير في المخصص للري.. وبرك مائية إسعافية عيد الأضحى في سوريا.. لم شمل الروح بعد سنوات الحرمان الدفاع المدني السوري.. استجابة شاملة لسلامة الأهالي خلال العيد دمشق منفتحة على التعاون مع "الطاقة الذرية" والوكالة مستعدة لتعاون نووي سلمي حركة تسوق نشطة في أسواق السويداء وانخفاض بأسعار السلع معوقات تواجه الواقع التربوي والتعليمي في السلمية وريفها افتتاح مخبز الكرامة 2 باللاذقية بطاقة إنتاجية تصل لعشرة أطنان يومياً قوانين التغيير.. هل تعزز جودة الحياة بالرضا والاستقرار..؟ المنتجات منتهية الصلاحية تحت المجهر... والمطالبة برقابة صارمة على الواردات الصين تدخل الاستثمار الصناعي في سوريا عبر عدرا وحسياء منغصات تعكر فرحة الأطفال والأهل بالعيد تسويق 564 طن قمح في درعا أردوغان: ستنعم سوريا بالسلام الدائم بدعم من الدول الشقيقة تعزيز معرفة ومهارات ٤٠٠ جامعي بالأمن السيبراني ضيافة العيد خجولة.. تجاوزات تشهدها الأسواق.. وحلويات البسطات أكثر رأفة عيد الأضحى في فرنسا.. عيد النصر السوري قراءة حقوقية في التدخل الإسرائيلي في سوريا ما بعد الأسد ومسؤولية الحكومة الانتقالية