الملحق الثقافي:سامي سماحة *
احترقنا بثقافةِ النخب الثقافية، ولم نترك جَمراً لثقافةِ الحياة، فطوَّقتنا نيران الموتِ من كلِّ الجهات.
لا يشكُّ أحدٌ، بأنه كان لنخبنا الفكرية والثقافية والعلمية، إنجازاتٌ كبيرة سجّلتها المراكز والمختبرات العلمية في معظم أمم العالم، ولا يشكُّ أحدٌ، بأن الثقافة التي امتلكتها هذه النخب، قد ارتقت في مجتمعاتنا، فوازت ثقافة الأمم الكبيرة، بل وتفوقت عليها في بعض ميادين العلم والأدب.
لكن السؤال الذي لا يفارقني أبداً:
“لماذا اختفى جمر النخبة المثقَّفة، ولم يصل إلى عامة الناس، ولا إلى مراكز انطلاق الحياة في المجتمع، ليُطلق أقانيم الحياة الجديدة.. أقانيم الحقِّ والخير والنور والجمال؟!.
هل هي علّةٌ فينا، أم أن وباء التجزئة والاستعمار العثماني، ما زالا أكبر وأقوى من مشروع نهضتنا؟!!.
كنا وما زلنا، نصفُ احتلال فلسطين، واغتصاب بعض أراضينا العربية، بالمرض الخبيث، فهل كان لهذا الخبيث، الدور الأساسي في مواجهة ثقافتنا القومية، ثقافة الشعب الواحد؟!.
أعتقد أن دوره ليس في الاحتلال المباشر فقط، بل دوره الأساسي في الخطط المرسومة في الغرفِ السوداء لهذه البلاد..
إذا أردنا أن نقرأ الدور الغربي الساعي لاستكمال مشروع التتريك، بمشاريع الفرْنَسة والأمْرَكة وغيرهما، علينا العودة إلى فترة الرجل العثماني المريض، والدور الغربي في إطالة عمر هذا المريض.
يوم وصل “ابراهيم باشا” إلى اسطنبول، وأوشك على إنهاء الوجودِ العثماني في بلادنا، أعادته دول معاهدة “كوتاهية” إلى مصر، وحقنت العثماني بحقنٍ تبقيه حياً، حتى تستكمل تجهيزات التدخل في بلادنا، وتسيطر على الفراغ الذي ستحدثه هزيمته أو نهايته.
وقد اختار الغرب استعمال أساليب الحرب الجديدة، حرب الغزو الثقافي الذي يوهن الأمّة ويفقدها حيوية المقاومة والمواجهة، وبناء مشروع الاستقلال الفكري قبل الاستقلال السياسي.
لست هنا في معرض الخوض في تفاصيل المشروع، ولكن رأيت من الواجب أن أذكِّر بذلك لأقول، بأننا ما زلنا في نقطة الاستهداف الفكري والثقافي من قِبل الأعداء وداعميهم، ومروِّجي مشاريعهم والموافقين على التطبيع معهم.
غاية الغرب الأولى، عدم تحقُّق الوعي في الأمَّة، أو حتى النظرة الواعية والواضحة والصريحة للحياةِ والكون والفن، ولذلك نراه يستعمل كلّ الأساليب المتاحة لتحقيق مشروعه، دون أن يلتفت إلى القيم الإنسانية والأخلاقية .
يجب أن لا نستغرب قولنا، أن دمشق كانت في عين العاصفة، حتى قبل أن تندلع الحرائق من قِبل من أسموها ثورات الربيع العربي، ولا نستغرب أبداً، إذا سمعنا بعض من يدّعون بأنهم متنورين يقولون، بأن غاية هذا الربيع الوصول إلى صناعة خريف دمشق الفكري والثقافي، الذي يكون المحطة الأولى في لي ذراع دمشق.
لذلك وكما قلنا سابقاً، اختاروا في المرحلة الأولى، وجوهاً ثقافية غادرت وطنها بدعوى أنها معارضة، وأمَّنت لمشروعهم الغطاء الثقافي الساعي لتدمير الوطن وكلّ ما يرتقي به.
نعم، نملك قدرة على المقاومة الثقافية لأي مشروع إلغائي لبلادنا، ولكننا نعتقد أننا حتى اليوم لم نستطع صياغة مشروع نهضتنا، والسبب في ذلك أننا حتى الآن لا نفتِّش عن هذا المشروع، ونكتفي باجترارِ بعض العناوين التي لا تملأ معدة جائع، ولا فراغ عقلٍ تحاول أن تملأه إرادة الغرب.
المحزنُ، ما آلت إليه عواصمنا التي هي حواضر ثقافية، كان لها دور مميَّز في صناعة حركة التطور، ليس في بلادنا فحسب بل في كلِّ العالم.
لا شك أن للغدَّة السرطانية، وما يصبُّ فيها أو يخرج منها من خلايا خبيثة، دوراً مباشراً وغير مباشر، وآخر حلقاته التطبيع، ولكن لا يمكن لنا أن نبقى في دائرة ردِّ الفعل الثقافي، ولا أن نبقى نلعب دور المقاومة الثقافية ومقاومة التطبيع، ومقاومة الاتفاقيات الثقافية التي تستهدفنا.
لا يمكن لنا أن نبقى كذلك، بل علينا أن ننتقل من حركة المقاومة الثقافية الآلية، إلى حركة الثقافة الهجومية.
حتماً، يحتاج هذا إلى بناءِ مجتمع يرتقي بثقافة الحياة، ويحكمه الأمان الثقافي بطريقةٍ، تمنع كلّ الاختراقات التي تساهم في هوان الثقافة وهوان البلاد.
سقطت بعض حواضرنا الثقافية، فانتفض بعضها وقام كالفينيق، وبعض حواضرنا ما زالت تقاوم وصامدة، وأعني “دمشق”.. المدينة الصامدة والمقاوِمة، والتي هي على أهبة الاستعداد للانتقال من المقاومة الى الهجوم.
إذا لم يتحوّل جمرنا إلى نارٍ، فجمر الأعداء سيلتهم حقولنا، وإذا لم تتحوَّل نارنا إلى نورٍ، فنار الأعداء ستلتهم بساتين بلادنا.
إذا لم نبنِ مواقد نارنا، فإننا ذاهبون إلى أتون نارهم التي بنوا لها مواقدها في شوارع مدننا، وزواريب قُرانا، وإذا بنينا مواقدنا بالسياسة فستذهب بالسياسة مع أول صعوبة، أما إذا بنينا مواقدنا بالثقافة، فإننا نكون قد بنينا مواقدَ لا تَهدم حجارتها كلّ عواصف الدنيا.
هذا ما علينا بناؤه، لكن: كيف لنا أن نبني بالثقافةِ مجتمعات يُهاجم فكرها وسياستها وإنسانها وجيشها؟.
ليس هذا السؤال فحسب، فهناك العديد من الأسئلة المرتبطة بوجودنا كأمِّة ووطن، أسئلة أهمّها: كيف ننتقل من ثقافة المقاومة إلى ثقافة الارتقاء والهجوم؟.
* كاتب لبناني
التاريخ: الثلاثاء2-3-2021
رقم العدد :1035