الملحق الثقافي:نبوغ محمد أسعد:
شاعرتنا المخضرمة الجليلة، القوية، الصابرة، الأصيلة المنبت والجذور، والتي نشأت في أسرةٍ مشرِّفة من الفرسانِ الأشداءِ والنبلاء، وأبٍ هو من خيرةِ العرب.” الخنساء بنت عمرو بن الحارث”، شقيقة صخر ومعاوية، سادة العرب في العصر الجاهلي..
هذا النسب العريق، جعل “الخنساء” تجالس أشهر شعراء زمانها، وتنهل من خبراتهم وتجاربهم، لتصبح فيما بعد، من أشهر شاعرات العرب، وأشدّ فحولة من شعرائهم..
عُرف عنها، بأنها شاعرة الفخر والرثاء، وقد أنشدت ذات مرَّة قصيدة خصَّتها بأخيها صخر، أمام “النابغة الذبياني” في “سوق عكاظ” الذي كان يستقطب كافة الشعراء والعلماء، وكبار المثقفين والنوابغ، فأعجب بها كثيراً وأذهلته قوة التعبير، وصلابة اللفظة، وأثّرت في نفوس سامعيها، ولاسيما بقولها: “قذى بعينك أم بالعين عوار / أم أقفرت إذ خلت من أهلها الدار”.
أهم ما عرف عن “الخنساء”، مبارزتها الكلامية والشعرية، لأحد أهم شعراء العرب. “حسان بن ثابت الأنصاري” الذي انتقدته في أجمل أبياته: “لنا الجفنات الغرُّ يلمعن بالضحى / وأسيافنا من نجدة يقطرن دما”
لقد عابت عليه أنه لم يفخر بأهله، وأرادت منه أن يقول، يسلن بدلاً من يقطرن، فأيدها النابغة ووصفها بأنها من أشعر العرب.
استطاعت “الخنساء” من خلال متابعتها للشعراء والمتمكِّنين من العلوم والآداب، أن تصنع لنفسها مكانة عظيمة في التاريخ، ومواكبتها واطِّلاعها على أشعارِ من كانوا في عصرها، وحفظها للشّعر والأحاديث النبوية والقرآن، أكسبها قوة في الشخصية، ورجاحة في العقل، والصبر على المصائب، وإثبات الوجود، فصار العرب والعجم يتناقلون أشعارها في جميع أصقاع الدنيا، ولما تتميز به هذه الأشعار، من رثاء وفخرٍ لا تكلّف فيهما، وكانت تختار لمواضيعها، الموسيقا الملائمة كما فعلت في قصيدتها:
يؤرقني التذكّر حين أمسي / فأصبح قد بليت بفرطِ نكس
على صخرٍ وأي فتى كصخرٍ / ليومِ كريهةٍ وطعان حلس
غالبية قصائدها، في الرثاء والفخر والحكمة، وتتصف بالبلاغة والفلسفة التي اكتسبتها ممن كانوا يجالسون والدها وأخوتها الفرسان .
طبعت لها عدة كتب، تحت مسميات مختلفة، لكتَّاب وباحثين من مختلف بلدان الوطن العربي، وذاع صيتها في أنحاء بلدان العالم، لكثرة ما ترددت قصائدها في رثاء أخويها، معاوية وصخر، الذي كان أقرب لها من حبل الوريد.
عاشت سبعة وثمانين عاماً، تردد أشعارها بين العرب، لتكون المثال الذي يحتذى به بالشجاعة والقوة والصبر على المحن، وهي التي قدّمت أولادها الأربعة شهداء، فكانت الأم الأولى في تاريخ البشرية، التي تدفع بأبنائها لخوض المعارك ونيل أعظم شهادة.
ما وصلت إليه “الخنساء” جعل النقاد والشعراء والباحثين يعملون على شرح أشعارها، وجمعها في العديد من الكتب والمجلات، وطبع ديوانها في معظم البلدان العربية، وقد كتب قصة حياتها “عبد الستار علي السطوحي” فكانت أروع مثال للمرأة في التضحية، حتى في كتاب الأستاذ “بشير يموت “شاعرات العرب في الجاهلية والإسلام”.
حتماً، ما أوردت كلّ هذا إلا لأقول: لقد كثرت الخنساوات في وطننا، لكثرة ما قدمن من شهداء، فكنَّ مثال الصبر والقوة والجلد، صابرات كصبرِ الخنساء جدتهنَّ.
التاريخ: الثلاثاء20-4-2021
رقم العدد :1042