الملحق الثقافي:ثراء الرومي
علّمَتْها سنوات الحرب، أن تعيد تدوير الدّمعة السّاخنة لتغدو دمعة فرحٍ، وإن تشبّثَت بأهدابِ أملٍ مؤلم، بات من أقصى أمنياتها عبره، أن يعود إليها جثمان شهيدها لتواريه مقبرة القرية، وتحظى بفرحِ زيارته، فمعايير الفرح قد دارت بها رحى الحرب، وأصبحت مُدرجة حتّى على لائحةِ التّعازي.
علّمها الحبّ أن تعيد تدوير القسوةِ، بحثاً عن نبضةٍ دافئة متخفّية تحت ذاك القناع، وتكسر راء تفرّعَت بين حرفَي الحبِّ، لتسرق منها ومن زوجها النّزق، أجمل اللّحظات التي يعدو العمر بها دون توقّف… وكلّما أمعنت في تدوير تلك القسوة، كانت تدرك من جديدٍ كم يحبّها، وكم يحرص على غرس تلك الرّاء شوكة في أعماق روحها المعذّبة.
أيّ حبٍّ ذاك الذي يقتات على طلاسم المعادلات، ويحتاج لبراهينٍ عديدة. أيتّسعُ العمر لكلّ هذا، أم سيكتشف عكّازها وهي في الطّريق إلى قبرها، أنّه كان يهيم بها عشقاً، ولكنّه يأبى التعبير!..
ما زال وقع كلمات ذاك الطّفل، الذي قابلَته منذ سنوات، يتردّد على مسامعها مؤكّداً أنّ صيرورة الاستمرار مرهونة بالمحبّة، مهما تنوّعت كؤوس الشّقاء التي تجرّعَها الجميع، على مدى سنواتِ الحرب المريرة.. ذاك الطّفل الذي اقترب منها يومها بفرحةٍ طفوليّة غامرة، وهو يحمل كرة القدم التي بحوزته ويقول لها: «ألم تعرفيني؟…أنا أمجد». نظرَت إلى عينيه الزّرقاوين البريئتين، ولم تسعفها ذاكرتها، وخمّنت عمرَه. لعلّه في الصفّ الثّالث الابتدائيّ. فقالت له: «ذكّرني أكثر بنفسك». ردّ بمنتهى البراءة المندهشة: «أنا أمجد!، يمكنك أن تدعي طفلك يركلُ الكرة». وهذا ما كان. راح طفلها يركل الكرة وهي ترى بريق الظّفر في عينيّ أمجد، ليقول جملته التي سمّرَتْها في مكانها: «عم حاول خلّي الناس تحبّ بعضا، بس ما عم يمشي الحال. المشكلة… ما عاد حدا حَبّ حدا».
لفتت نظرها حركة يديه، وهو يعبّر عن استيائه، ومضت لتُدخِل طفلها إلى الرّوضة وعادت وفي ذهنها أسئلة كثيرة، لتصادفه من جديدٍ في نفس المكان، فاتّجهت إليه: «لم تقل لي يا أمجد، بأي صفٍّ أنت»؟..
«أنا في الصفِّ الثّالث»..
«وما أدراك أنّ النّاس لا تحبّ بعضها بعضاً ؟».
«من النّظر. انظري في عيون النّاس. حتّى إنّهم ما عادوا اجتمعوا معاً».. ومدّ يديه الصّغيرتين، معبّراً بما أوحى لها أنّها أمام كهلٍ أضنته الهموم: «أساساً لو أنّ النّاس تحبّ بعضها، ما كانت حصلت كلّ هذه المشاكل. المشكلة أنّه…. المشكلة»..
استرسل في شجوه وهي تتأمّله، رسولَ محبّة صغير ظهر لها من حيث لا تدري: « الكلام الذي أقوله لك أحاول أن أخبره للكثيرين، ولكن لا فائدة. المشكلة…»..
«حسناً طالما هناك أمثالك يا أمجد، عسى رسالتك تصل والنّاسّ تحبّ بعضها بعضاً من جديد».
يومها تركَتْه مع أخيه الأصغر، الذي عرفها بنفسه على أنّه صلاح، ومضت باسمةً طوال الطريق، وتساؤلاته الطفولية البريئة تغرز حرابها في قلبها بالقدر الذي أثارت فيه دهشتها وإعجابها. يا للطّفولة الغضّة، كم هرمَت قبل الأوان!..
معك حقّ أيّها الصّغير البريء، بالمحبّة نصنع المعجزات، وبها نواجه أعتى التّحدّيات، لتبقى سوريّتنا الغالية عزيزةٌ أبيّة.
التاريخ: الثلاثاء3-8-2021
رقم العدد :1057