الملحق الثقافي:هفاف ميهوب:
كثرٌ من كتّاب ومفكريّ العالم، أشاروا في أكثر من دراسةٍ أو محاضرة أو كتاب، إلى الدورِ البالغ التأثير للمصطلحات التي تُستخدم أثناء الحروب والأزمات، والغزو الذي تمارسه الدول الاستعماريّة..
من هؤلاء الكتّاب والمفكرين، الباحث البلغاري «تزفيتان تودوروف» الذي أشار إلى ذلك في عدّة محاضرات، تحوّلت إلى مقالاتٍ جمعها كلّها في كتابٍ، خصّصه لتناول أكثر المصطلحات استلاباً وغزواً للشعوب، التي تمّت إبادتها بطريقةٍ يعجز الوصف عن تبيانِ ما فيها من وحشيّةٍ وهمجية.
«فتح أميركا.. مسألة الآخر» هو هذا الكتاب، وأوّل ما أشار فيه إلى أن استخدام مصطلح «اكتشاف كولومبس لأميركا»، هو أمرٌ غير مقبول، بل ومستفزّ، لأنه يدلّ على «تمحور أوروبي ومركزية غربية»، ليكون ما يفترض استخدامه، ما تدل عليه الحقائق التي باتت واضحة لكلّ العالم، الذي سعى هذا الباحث لمواجهته بكيفية غزوِ المصطلحات.. فكلمة «اكتشاف» تُظهر أن القارة التي كانت حينذاك مجهولة بالنسبة لأوروبا والعالم القديم، لكنها معروفة لدى سكانها الأصليين، تحمل في طياتها إيديولوجية تضخّم الذات الأوروبية، وتغيب الآخر المنبوذ بالنسبة لهذه الذات، التي لا تكتفي بنبذه، بل وبإبادته واحتلال أرضه واحتقاره، بطريقةٍ لا تمتّ بأيّة صلة إلى الأخلاق والإنسانية».
لم يكن هذا المصطلح، وحده ما أشار إليه «تيودوروف»، بل أيضاً إلى المصطلح الذي يعتبر أن هذه القارة «أميركيّة»، أو كما يقال عنها «العالم الجديد»..
هذا وسواه، جعله يرى بأن هذه المصطلحات وغيرها، مما يُستثمَر ليغزو غزوها، يدلّ على استلابِ واحتلال الآخر لغويّاً، بل واقتصاديّاً واجتماعيّاً وثقافيّاً.. يدلّ أيضاً، على إزاحة الآخر وتغييبه وإبادته، وهو ما حصل للسكان الهنود الأصليين، الذين باتوا أقلّية، وغرباء عن وطنهم، مثلما لغتهم وثقافتهم وعاداتهم…
لا شكّ أن هذه المصطلحات، بل هذا الغزو للآخر، قد تمادى وتطوّر في أساليب وأدوات تحكّمه وهيمنته.. قمعٌ وتهجير واستبعاد، وتصفية جسدية وحضارية، واختراق وتشويه للمفاهيم والحقائق، وتوزيع دول العالم الثالث إلى حصصٍ وممتلكات أوروبية، وكلّ هذا تحت مسمّيات عدّة قامت على النهب والادعاءات الباطلة والمزيّفة، والشعارات الغارقة في دمويّة من أطلقوها باسم الحضارة والتمدّن والتبشير، وسوى ذلك مما نراه يمزّق حاضرنا، بديمقراطيّة الإرهابِ الأميركيّة.
نعم، هي المصطلحات التي غزت الآخر، فدمّرته واحتلت أرضه وطمست معالمه وأبادته، وإلى أن أصبحت كلمة الحرية والتحرير، تعني فوضى الاعتداءات والتدمير، والحقوق الإنسانية سلبٌ للحياة وحصار وتجويع وتركيعٌ وإبادات جماعية. أما الديمقراطيّة، فلا نهاية لتعداد جرائمها، وكلّ ذلك بسبب أناها المريضة، والسّاعية إلى رفعِ شعار: تحيا الديمقراطيّة القاتلة للشعوب، بسلاحِ العنصريةِ الصهيو – أميركية..
لا يكتفي «تيودوروف» بإيرادِ تأثير تلك المصطلحات على الشعوب الأخرى، بل يورد الكثير والمؤلم من قصصِ ويوميات الغزاة والمؤرخين.. يوميات «كولومبس» ذاته، وقصصٌ مروّعة كتلك التي فضح فيها «لاس كاساس» أحد أوائل المستوطنين الإسبان والأوروبيين، والذي شارك بداية في الانتهاكات التي ارتكبها المستعمرون ضد السكان الأصليين، لكنه تراجع فيما بعد، ووثّق فظاعة هذا الغزو في كتابيهِ الشهيرين «تدمير الهنود الحمر» و»تاريخ جزر الهند الغربية» حيث قال:
«عند وصول الاسبان إلى القرية، وبعد أن توقفوا لتناول الإفطار، راودتهم فكرة جديدة، التحقّق ما إذا كانت السيوف قاطعة بالدرجة التي تبدو بها.. فجأة، يستلُّ اسبانيّ السيف، وسرعان ما يحذو المائة الآخرون حذوه، ويشرعون في تقطيع أحشاء، وقطع وذبح هذه الشياه والحملان، من الرجال والنساء والأطفال والشيوخ، الذين كانوا جالسين، هادئين، يتفرّجون في عجب، على الجيادِ والإسبان، وفي ثوانٍ معدوداتٍ، لم يبقَ على قيدِ الحياة أحداً ممن كان موجوداً.. يدخل الاسبان إلى بيتٍ مجاور، فيشرعون بالمثل، عن طريق الطعنِ والقطع، حتى سال الدم في كلّ مكان، كما لو أنه جرى ذبح قطيعٍ من الأبقار.. لقد أحرقوا بعض الهنود أحياء، وقطعوا أيدي وأنوف وألسنة البعض الآخر، وألقوا بالبعض الثالث إلى الكلاب»..
قصصٍ أخرى وأخرى، استدعاها «تيودوروف» ليدلّ على مقدارِ وحشية الغزاة، الذين لم يروا في الآخر سوى التخلف والغباء والجهل، بينما رأوا بأنهم المبشّرين بالتقدّم والحضارة الإنسانيّة..
هذه هي الحضارة، وهذا هو التقدّم الذي أكثر ما آلمَ «تيودوروف» فيه، أن يكرّر التاريخ نفسه، بل هذا ما دفعه إلى تأليف كتابٍ قال عن هدفه منه:
«سعياً إلى التأكّد إلى حدٍّ ما، من أننا لا ننسى هذه القصة، وألف قصّة وقصّة أخرى مشابهة، فأنا أؤمن بضرورة البحث عن الحقيقة، وواجب إعلانها، وأعرف أن وظيفة المعلومة موجودة، وأن وقعها يمكن أن يكون قويّاً، وما أرجوه حتماً، ليس أن تُرمى النساء، كما رميتْ نساء «المايا» للكلاب حتى تلتهمهنّ، بل أن نتذكّر ما يمكن أن يحدث، إن لم ننجح باكتشاف الآخر..».
هذا ما سعى إليه «تيودوروف» من كتابه، الذي دعا فيه، وبعد أن عرّى المصطلحات التي استُخدمت لتبرير غزو الشعوب واحتلال أراضيها وإبادتها، إلى حوار الحضارات لا اقتتالها، وإلى إظهار الحقائق لا التلاعب بالألفاظ ومسمّياتها.. دعا أيضاً إلى جعل نصوص كتابه، عظّة للشعوب كي تعرف كيف تواجه الآخر، ليس بالـ أنا، بل بالـ هم، ولا بصوتٍ واحدٍ ومصطلحٍ واحد، بل بأصواتٍ مختلفة، ومصطلحاتٍ غير مفخّخة..
هذا ما سعى إليه، وما أراد القول منه: «من يجهل التاريخ، يجازف بتكراره»..
لا أعتقد بأن هناك من بات يجهل التاريخ.. ومن لا يعرفه جيداً، أو يعرفه ويتجاهله، فلينظر إلى ما يعيشه العالم من اضطراباتٍ وحروبٍ واعتداءاتٍ وأوبئة وإبادات، على الأقل منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر.. اليوم الذي أُطلق فيه مصطلح «الإرهاب»، والذي توالت بعده الاعتداءات على الشعوب، من قِبل امبراطورية الشرّ «الأميركية» التي اعترف غالبية كتّاب ومفكّري حتى عالمها، بأن امبراطوريّتها زائفة، وحداثتها هيمنة واستلاب واغتيال للعقول الرائدة والعارفة، بأن مصطلحاتها ولاسيما الحرية والعدالة والحضارة والديمقراطيّة، هي من أشعلت حربين عالميتين أُزهقت فيها من أرواح المدنيين ملايين، وهي من ابتكرت الأسلحة النووية والبيولوجية والكيميائية، بل ومن صنّعت أسلحة الدمار الشامل والقنابل العنقودية.. أيضاً، من أبادت الشعوب، وشنّت ضدّها أبشع الحروب، ابتداءً بأفغانستان والعراق وليبيا واليمن، وليس انتهاءً بالحرب والحصار والمجازر والضغوط، التي مارستها منذ بداية الحرب على أرضنا السورية.
التاريخ: الثلاثاء28-9-2021
رقم العدد :1065