الملحق الثقافي:حبيب الإبراهيم:
يأخذنا الّشاعر «أيمن إبراهيم معروف» في مجموعته :»قوسُ الحبر .. قوس التراب»، إلى عوالمٍ تتفرّد في خصوصيتها، وهو المتمرّس في التقاط الصورة الشعريّة بحرفيّةٍ بالغة الحيوية والدلالة اللفظيّة، وكأننا أمام فنان يجيد صياغة الألوان، ليقدّم لنا قوسه الشّعري عابقاً بأطيافه البديعة الشفافة، وبجماليّةٍ منقطعة النظير .
«قفْ بي على الماءِ
رباناً بلا سفُن،
يُشاكسُ الموجَ
حتّى تستوي سفنه».. (من كلمة الغلاف).
أن تقرأ للشّاعر، فأنت تحلّق بأجنحة الكلمة المعبّرة، إلى فضاءاتٍ واسعة الأمداء، وفيها من الحميمية وشغف البوح، ما يجعلك أسيراً للقصيدة بكلّ تدرجاتها وتحوّلاتها، سواء اللفظية أو التعبيريّة، أو الجماليّة أو الرمزيّة، ولا تستطيع إلا التعلّق بشآبيب الصورة الشّعرية، التي تحاول أن ترسم خطّاً يصل إلى القلب والوجدان، كما لا تستطيع في الوقت ذاته، الإفلات من لغته الدقيقة، برمزيّتها ومراميها وفنيّتها، التي لا تقف عند حدٍّ معين .
«قلْ للمدادِ :
أنا لهُ خدمٌ
إن عافَهُ.. أو خانَهُ..
خدَمُهْ …» ص (7)
قسّم الشّاعر المجموعة إلى قسمين: الأول «قوس الحبر» والثاني «قوس التراب»، ضمّن كلّ منهما مجموعة قصائد، رواها من قلبه وحزنه وفرحه..
في قصيدة «قوس الحبر» يُطلق صرخته التي عبّر فيها عن دهشته وغربته وألمه، من واقعٍ لا جهات له، ولا ماء يبدّدُ عطشه الدفين ..
«جفّتْ مياهُ النّهرِ..
جفَّ البحرُ..
والماءُ الّذي في الماءِ
تهتكُ قوسهُ الشّعراءُ
وأنا المُبَدَّدُ في الجهاتِ
وليس لي جهةٌ
لأعرفَ مَن أنا
فجهاتي الغبراءُ
وسمائيَ الفُصحى
لسانٌ أبكمُ….» ص (13)
ثمّة حالةٍ من القلق والحزن النبيل، يحاول الشّاعر أن يتغلّب عليهما، وهذا ما نلحظه في قصيدة «أطلقت كلّ قواربي في الريح»:
«أطلقتُ كلّ قواربي في الرّيح
حيثُ أضاعني كلّ الأحبّة
في دجنّتهم وضاعوا» ص (32).
ويلجأ الشّاعر للخروج من هذه الحالة، إلى استنهاض مشاعرٍ طافحة بالحبّ والأمل، مخاطباً الأمّ برمزيّةٍ وجدانية، تسمو بالنفس وتمسح أدران الحياة العالقة على روحه، إذ يقول في نفس القصيدة:
«وأريد يا أمّي
بريدي دونَ عنوانٍ
لكي يصل البريد
وأريدُ أكثر
أن تظلّ الأرضُ مائلةً
فأنسى صاحبي فيها
وأنسى ما أُريد»..
يقدّم الشّاعر في أكثر من قصيدة، رؤيته الخاصة للشّعر ووظيفته ودوره الاجتماعي والإنساني، ومن يتمعّن في مضامين قصائده، يلحظ تأثّراً واضحاً بالشعراء الصوفيين، وهذا ما نراه واضحاً جليّاً في قصيدة :»إلى ابن الفارض» حيث يقول :
«لم يبقَ منّي
غيرُ هذا القلب أحملهُ
وأحملُ في تلفّتهِ.. هُيامي
ولقد أضعتُ على مفارقهِ
الجهات الستّ من شغبي
وتأويلِ الكلامِ».. ص (55)
والشّعر كما يراه «معروف» دُمية جميلة في يدِ طفلٍ مشاكس، يلهو بها ومعها، بل هو نورٌ يضيء عتمة القلوب، وفضاء الكلمات.. ويعرّف الشّعر شعراً:
«هُوَ هكذا،
يلهو بأعضائي
ويُنْحلُني جميعي
كي يُضيءَ
ويمتلئ…» ص (70)
في القسم الثاني من المجموعة، ثمّة عناوين مدهشة وغريبة ومتداخلة، حيث نقرأ التشابه أحياناً، والتناقض أحياناً أخرى، ففي قصيدة «قوس التراب» وهي طويلة نسبيّاً إذا ما قورنت ببقية القصائد، نقرأ لغة مغايرة تضجّ بالحركة والرمزية، وتمضي مع الشّاعر عبر أنساقه المتتالية، ليقدّم لنا لوحةً، مشهداً، ملحمةً:
«ثمّةَ الآنَ شيءٌ رجيمْ!!!
ثمّةَ الآن شيءٌ وراءَ الوراءِ
وقُدّامَ هذا الأمامِ
وغربَ الجهاتِ
وشرقَ الأنينْ».. ص(112)
وفي «شهوة القصيدة» التي أهداها للشّاعر «محمود درويش»، يسكبُ قوارير عطره، ودنان حروفه، شعراً نابضاً كبياراتِ الزيتون والليمون في يافا، حيث يخاطبه:
« يا مالئَ الفصحى
بنبرةِ صوتهِ
يا شاغلَ الدّنيا
بلحظةِ صمته» ص(118)
يذكرنا هنا، بالشّاعر الكبير «المتنبي» الذي وُصف بأنّه «مالئ الدنيا وشاغل الناس».. و»درويش» الذي أعطى للشّعر العربيّ والقضية الكثير:
«هُوَ لمْ يمُتْ
لكنّهُ اشتبهَ النعاسُ عليه
فارتبكّ النّهارُ
على حدودِ جهاتهِ..»
باختصار: هي مجموعة لها ميزاتها المتفرّدة، والشّاعر «معروف» يكتب قصيدة التفعيلة بتميّز.. لغته رصينة، صوره الشعريّة مرسومة بفنيّة عالية.. إنه شاعرٌ يبحرُ وريحه وتأملاته، إلى شطآنِ الشّعر البعيدة، الوجلة.
التاريخ: الثلاثاء26-10-2021
رقم العدد :1069