الثورة اون لاين – د. ثائر زين الدين:
ليست هذه المرة الأولى التي نحتفي فيها بالأديب الراحل صياح الجهيم، فقد فعلنا ذلك غيرَ مرةٍ في غيرِ مكان. ويذكرُ كثيرٌ منكم-أيها الأعزاء- الندوة التي أقامتها مديرية ثقافة السويداء عام ٢٠٠٧ في مكتبة الأسد الوطنية وشارك فيها:
شوقي بغدادي، وقاسم وهب و كمال القنطار وثائر زين الدين وابتسام حوشان.
ورعاها وزير الثقافة يومذاك… وصدر كتاب عن الوزارة ضم الأبحاث .
و من دواعي شعوري بالفخر أننا أطلقنا عام ٢٠٠٦ يوم كنت مديراً للثقافة ورئيساً لمركز السويداء أسماءَ نخبة من أدباء محافظة السويداء على مسارح وصالات المراكز الثقافية. فكان أن أسمينا مسرح المركز الثقافي العربي في السويداء باسم صياح الجهيم. والمكتبة وقاعة المطالعة باسم الشاعر سلامة عبيد. وصالة ثالثة متعددة الاستخدامات باسم المجمعي: عارف النكدي، ومسرح المركز الثقافي العربي في القريا باسم الشاعر عيسى عصفور
أما مسرح المركز الثقافي العربي في صلخد فحمل اسم الشاعر الشعبي ثاني عرابي.
لقد كانت لي أيها الأعزاء محطاتُ لقاءٍ عديدة مع الراحل الكبير صياح الجهيم أفدتُ منها في عملي الثقافي وكتاباتي. يسعدني أن أذكر بعضها على مسامعكم:
كان اللقاء الأول عام ١٩٨٣ عندما أقام المركز الثقافي العربي في السويداء أمسية شعرية لي وللصديق حسين ورور وكنت طالباً في السنة الثانية من كلية الهندسة، وقد دعوت بنفسي الأستاذ صياح لحضور الأمسية.
وكم كنت سعيداً عندما شاهدته على رأس الحضور.
كنتُ أنشدُ جذلاً:
“أنا سيدُ الفقر العظيمْ
ووريثُ بؤسكَ يا وطنْ
وأنا سليلكِ يا همومْ
أمشي ويكسرني الزمنْ
هزئتْ بآمالي سدومْ
ومضت تُعدُّ لي الكفنْ
سأُجرِّعُ البغيَ السمومْ
وأعيدُ تحطيمَ الوثنْ.”
كنت يومها- كأبناء جيلي- أظن نفسي قادراً على تغيير العالم.
فوجئت في نهاية الأمسية أن الأستاذ صياح -على غير عادته- طلب أن يتحدث وأنصتت القاعة أمام مهابة الرجل. ومضى يتلمس ما رآه جميلاً وما يمكن لهذا الفتى أن ينتبه إليه في قادم الأيام ويتجاوزه…
سحرني الرجلُ بتلك الكاريزما الواضحة… بلغته العربية الشفوية العالية… وبثقافته الواسعة في حقل الحداثة الشعرية، وأنا الذي ظننته أميل إلى التقليدية… إلى قصيدة العمود…
لقائي الثاني بالرجل كان بعد سنواتٍ عديدة حين كنت أكتبُ كتابي “قارب الأغنيات والمياه المخاتلة/ توظيف الأغنية في القصة والرواية”.
وجدتُ بين المراجع التي تفيدني في بحثي المذكور كتابَ جان ريكاردو ” قضايا الرواية الحديثة”… ولفت انتباهي أنه من ترجمة صياح الجهيم، وإصدار وزارة الثقافة.
قرأت الكتابَ النقديَّ فما أحسستُ البتة أنني أمام كتاب مترجم… بل أمام كتاب مكتوبٍ باللغة العربية… لا أثر لأدوات العمل إطلاقاً في النص… بل ها هو ذا المترجم ينحتُ مصطلحاتٍ في تقنيات السرد من أعماق العربية، منها على سبيل المثال لا الحصر: مصطلح ” الإرصاد”.
وقد بين الأستاذ صياح في واحد من هوامش الكتاب أنه استقدم هذا المصطلح من علم البديع، وهو كما عرّفه القزويني: ” أن يُجعلَ قبل العجز من الفقرة أو البيت ما يدل على العجز”، وقد استخدم هذا المصطلح كمعادل لعبارة أندريه جيد: Mise En A byme التي استخدمها الثاني للدلالة على إدراج قصة صغيرة في القصة الطويلة أو الرواية قبل انتهائها، تكون بمنزلة المرآة التي تنعكس فيها هذه القصة الكبيرة، وأخذ جان ريكاردو هذا المصطلح، وبين أن مثل هذا الأمر نجده في الأدب بشكل غير قليل، ومن أمثلة ذلك مسرحية ” هاملت” لشكسبير، ففي الفصل الثالث- المشهد الثاني، يُمثّلُ هاملت وبعض الممثلين مشهد مصرع الملك وتآمر زوجته عليه وزواجها من أخيه القاتل، وذلك بحضور والدة هاملت ” الملكة” وزوجها الملك
الجديد”.
وهذا المشهد هو مصغّر لحكاية المسرحية كلها.
وقد أخذت شخصيّاً هذا المصطلح واستخدمته في بحثي المذكور.
أما لقائي الثالث بالرجل فسيأتي بعد سنواتٍ من لقائي الماضي حين كنت أكتب كتابي الذي صدر تحت عنوان: “ضوء المصباح الوحشي/ علاقة الفن التشكيلي بالشعر”.
يومذاك عدتُ إلى كتاب ” كلمات” وهو ديوان معروف لجاك بريفير ترجمه صياح الجهيم للعربية عن الفرنسية.
فأفدت من المقدمة الكثيفة الغنية التي أضاء فيها المترجم عصر الشاعر وأهم أحداثه…ورآه شاهداً على زمنه… وكثيراً من الميزات التي امتاز بها إبداع الشاعر.
والحق أنني توقفت عند قصيدتين مهمتين تعنيان موضوعي هما:” مصباح بيكاسو السحري”.
و قصيدة ” أوزيريس أو الهروب إلى مصر”.
هل أجاد صياح الجهيم في ترجمة الشعر كما فعل من قبل حين ترجم أعمالاً نقدية؟
لا أستطيع أن أطلق حكماً قاطعاً في هذا المجال… لكنني كنت أميل إلى ترجماته لأعمال نثرية كثيرة… منها روايات كرواية”البعث” لتولستوي… و”آنا كارينين” كما شاء أن يسميها… و”أورليان” عن الفرنسية…
اللقاءُ الرابع بصياح الجهيم سيحدثُ حين كنتُ أكتبُ دراسةً مقارنة عن ثلاثة قصاصين اشتغلوا على حكاية واحدة…
هي تلك الحكاية التي حدثت فعلاً في أواخر أيام الثورة السوريّة الكبرى يوم رفض عدد غير قليلٍ من الثوار إلقاء سلاحهم ومضوا باتجاه الحدود الأردنية وباتوا ليلتهم مع أسرهم في كهف كبير يعرفونه ليفاجؤوا صباحاً بكتيبة فرنسية تضع رحالها غير بعيدة عن موقعهم… وتشاء الأقدار ان طفلاً يبدأ بالبكاء فلا تجدي محاولات الأم كلها بإقناعه أن يصمت… وأمام هول ما يحدث والخوف من أن يكتشف الفرنسيون موقع الثوار لا أحد يعرف كيف تخنق الأم طفلها… روى الحكاية سلامة عبيد بوصفه واحداً من أطفال ذلك الكهف في كتابه الصغير المتميز ” ذكريات الطفولة”… وأعاد العمل على الحكاية نفسها ممدوح عزام وفوزات رزق…المهم أنني كنت أكتب بحثاً مقارَناً أتناول فيه هذه الظاهرة… فعدتُ إلى كتاب سلامة عبيد” ذكريات الطفولة”… لأجد أن ثمة مقدِّمة على درجة كبيرة من الغنى والعمق كتبها صياح الجهيم، تتناول اثني عشر نصاً سماها سلامة ذكريات… في حين برهن الجهيم أنها قصص قصيرة فنيّة، وفوجئتُ يومها بأنني أمام رجلٍ عالمٍ بتقنيات السرد القصصي، مزوُدٍ بذخيرةٍ غير قليلة من المعارف في هذا الباب…
لقد قدم صياح الجهيم إلى المكتبة العربية نحو أربعين كتاباً أغنت جانباً مهماً من جوانب ثقافتنا… وهو ما يصعب الإحاطة به في مثل هذه العجالة.