ثورة اون لاين – علم عبد اللطيف:
إذا كانت القصيدة تنشئ عالما.. فإن الشعر يتكفل بتشكيلها وفق معطيات الشعر لا الواقع.. وسوى ذلك يفقد الشعر وظيفته.. ويصبح تقريرا نثريا..
عالم خاص بالقصيدة.. تشكله غامضا ضبابيا. أو شفافا واضحا.. ويبقى شعرا باستحواذه على عناصر الشعرية.. تلك اللغة المفارقة للعادي من الكلام.
سَريَلة الشعر واكبت سريلة الرسم بداية.. حين تم تقديم العالم بشكل مختلف عن العالم.. اللوحة تقدم أشياء لا كالأشياء في عالم مشوه.. ولا تشبه حتى نفسها…
تم هذا تاريخيا بعد حربين عالميتين.. خلفت الدمار والمآسي في كل العالم.. فرسم سلفادور دالي الجورنايكا، هكذا كان يرى العالم المحطم.
لكن.. هل يحب أن يستمر تقديم العالم بهذا الشكل؟ ألم يتخلّق عالم جميل ومنتظم بعد ذلك؟ وإذن .. ما هو مبرر استمرار التعبير الفني عن عالم مشوه بعدما استرد سلامته؟
وحين بدت السريالية في الرسم كمدرسة ومنهج.. تميل للتجريد. أي الترميز.. وهو أمر مهم إذا عرفنا أن التجريد مناسب أيضاً للحداثة الشعرية.. وسيتولى الشعر حمل هذه المهمة.. ويقدم شعرا يجرد الأشياء ويرمّزها بما لا يقبل الاستبدال بسهولة.. وقدم هذا التحول أعمالا شعرية غاية في الرقي والعمق في العالم.. من بودلير إلى رامبو وغيرهما..
السريالية في الشعر واكبت سريلة الرسم والمسرح.. وتقدمت عليهما.. الشعر الإيحائي المستغني عن الدلالات.. تجربة مر بها شعراء الحداثة العرب.. التجريد الشعري كان مغامرة يجب أن تتسع لها تجارب شعراء كبار مثل أدونيس.. المطّلع بدقة على تحولات الشعر العالمي.. كتابة وترجمة.. فكتب القصيدة السريالية.. وأوغل في دوغما الجملة الشعرية.. بحيث يتضح ان النص لم يكتب ليفهم.. وربما لم يكتبه منشئه ليحاول فهمه. فقط تقديم مشهدية غامضة ومتنافرة تقصي دلالاتها بهندستها العصية على القياس.
لكن شاعراً كأدونيس. قائد ومنظّر المشروع، يدرك بالطبع أن المشروع الشعري ليس مغامرة فقط.. ولا يجوز أن يكون كذلك دوما…. وهو الذي خاض تجربة السريلة باقتدار متسلحا بثقافة غربية ومناهج ومدارس المؤسسين لهذا الاتجاه.. من بروتون الفرنسي. إلى تزارا الالماني…لم يكن باستطاعته إكمال الطريق بعد انسداد الأفق في الغرب.. وسنراه يعود إلى تشكيلاته الفنية أكثر وضوحا وشفافية ويحنّ إلى الشعر الغنائي أو القصيدة الحافلة بالدلالات.. كما في أبجدية ثانية..
وهو ما فعله محمد عمران أيضاً بعد قصيدة الطين وكتاب الملاجة.. فهي تجربة كان يجب أن يمر بها أمثال هذين الشاعرين.. عاد بعدها عمران إلى غنائية كتاب المائدة. وفي مديح من أهوي.. وصولا إلى التصالح مع قصيدة العمود… (تبارك زيتون الشآم وتينها)..
مغامرة سوف يُترك للزمن الحكم عليها وعلى نجاحها أو اخفاقها.
يكفي أدونيس أنه قاد حركة الحداثة منذ ترجمة كتاب برنار وتأسيس مجلة شعر.. وكان فعلا مؤسسا لحركة الحداثة الشعرية العربية.. وما يزال يعطي من رؤاه شعراً وتنظيرا وفلسفة..