الملحق الثقافي:هفاف ميهوب:
يشيرُ «جون دوكر» الأستاذ في كليّة البحث الفلسفي والتاريخي – جامعة سيدني، والباحث في عمليات الذبحِ الجماعية، إلى أن ما أراده من كتابه «أصول العنف -الدين والتاريخ والإبادة»، هو البحث في العنف والإبادة، اللذين يهدّدا البشرية في الألفية الجديدة، مقدّماً أمثلة حدثت في أوائل القرن الحادي والعشرين، مثل تفجيرات الحادي عشر من أيلول، في الولايات المتحدة 2001، أو الحرب الأنغلو- أميركية على العراق 2003، أو حتى تفجيرات لندن 2005..
يشير إلى ذلك، معترفاً بالقوّة المستمرّة للاستعمار والإبادة في التاريخ، مثلما بوحشيّة الاضطهاد الاسرائيلي، وممارساته ضد الفلسطينيين.. الممارسات الإجراميّة التي كانت من الأسباب التي دفعته إلى مناقشة موضوع العنف والإبادة، بوصفهما من مكوّنات الشرطِ الإنساني منذ العصور السحيقة، ليكون ما ارتكزّ عليه، هو العنف بين الجماعات لا بين الأفراد، ساعياً بذلك إلى «عرض وتفسير هذا النوع من العنف، بوسائلٍ تشمل العنف الجسدي المتوارث، في اللغة والثقافة والأفكار والمفاهيم والمرويّات والصور»..
يطرح براهين وحججاً، تستند على كتابات المؤرّخ البولندي – الأميركي «رفائيل لمكِن»، المنهمك في الدراسات المتعلّقة بالإبادة، والطريقة التي تُعاملُ بها جماعة بشرية ما، جماعة أخرى، ولاسيما في الفترة الأخيرة من القرن العشرين، حيث انتشرت الإبادة في كلّ أنحاء العالم، ولاسيما في فلسطين، التي دفعته المجازر والإبادات التي ارتكبتها إسرائيل بحقّ مواطنيها الأصليين، للشعورِ بضرورة قراءة التاريخ البشري، والبحث في هذه الجرائم، والنتائج المترتّبة على إعادة صياغة المفاهيم التاريخيّة، على مدى تاريخ من الحرب والإبادة، والغزو والاستعمار وإقامة الامبراطوريّات، عبر الثورات والمجازر والتعذيب، والتمثيل بالجثث والقسوة..
يعود إلى القِدم، إلى المفاهيم التي انبثقت من ثلاثينيّات وأربعينيّات القرن الماضي، حين حاول المفكّرون المهاجرون، إحياء وتطوير تقاليد كونيّة ودوليّة، تمثّل ذروة الحركات الامبريالية والاستعمارية الأوروبية، التي سادت في القرن التاسع عشر.. مفكرون مثل: «فالتر، فرويد، أينشتاين..».. وغيرهم، ممن انشغلوا بواجب الدعوة إلى الإنسانية، والعناية بثقافات العالم كلّه، معتبرين أن فقدان المرء لمجتمعه وثقافته، سببه الإبادة التي تؤثّر تأثيراً كبيراً وخطيراً على البشرية..
يوسّع «دوكر» دراسته، فيتناول وبعد بحثه في الخلفيّة التاريخية للإبادة، مناهجها وتقنيّاتها الجسدية والبيولوجية والثقافية، وكذلك مواقف مقترفيها، والوسائل التي تبرّرها، وصولاً إلى الاستجابات السلبية أو الإيجابية تجاه ضحاياها، ومن قِبلِ القائمين على ممارستها والدعاية لها.
يبدأ بتحليل العمل الداخلي للنصوص، المليئة بالمآسي الإغريقيةـ الكلاسيكية، التي اهتمّت بالقصص الأسطوريّة لحرب طروادة، أو بفكرةِ المستعمر التي تناولها «شكسبير» في مسرحيّته «العاصفة»….
يبحث في إشارة هذه النصوص، وفي كيفية قيامها بتوظيفِ حتى الأدب العجائبيّ، من أجل اختيار فكرة فلسفيّة، أو خطاب أو حقيقة مجسّدة في شخصِ رجلٍ حكيم، يكون هو الباحث عن الحقيقة..
ببساطة، إن ما أراد «دوكر» قوله في هذا الفصل، وعن عمليات العنف والإبادة منذ بداية التاريخ:
«رافقت الإبادة تنقّلات البشر وهجراتهم منذ البدء، نراها تحديداً في الغزوات، والحملات الاستعماريّة والتوسعيّة، للمجتمعات الزراعية والتجارية، في أنحاء الأرض.. لقد تزايد العنف بين الجماعات بشكلٍ كبير جداً، وذلك بسبب جهود تلك المجتمعات، في التوسّع والاستعمار والانتشار والغزو والاحتلال، وهي جهود موجّهة أصلاً ضد مجتمعات الالتقاط والصّيد».
الإبادة قديمة.. منذُ صعود الشمبانزي الثالث وسقوطه
يستدعي «دوكر» في هذا الفصل، رؤية مؤرّخين وعلماء وباحثين، لمعنى الإبادة وجذورها في التاريخ البشري، بوصفه تاريخ الإبادة، ليكون رأي «لمكِن» بأنها «لا تقتصر على القتل الجماعيّ، وإنما شملته، ولا ينحصر تنفيذها بمؤسّسةٍ أو سلطة، فهي تدلّ على خطّةٍ منسّقة، من أنشطةٍ مختلفة، تهدف إلى تدمير المقوّمات الأساسيّة لحياةِ مجتمعٍ ما، وتنطوي هذه الأنشطة، على اعتباراتٍ ثقافيّة وسياسيّة واجتماعيّة وقانونيّة وفكريّة وروحيّة واقتصاديّة وحيويّة وفسيولوجيّة ودينيّة ونفسيّة وأخلاقيّة»…
هذه الفكرة، وجدها «دوكر» تلاقي تأييداً لدى كثير من الأدباء والمفكّرين.. مثلاً: «جارد دايموند» العالم والكاتب الأميركي الذي يتناول الإبادة في كتابه «صعود الشمبانزي الثالث وسقوطه»، حيث يغلب التشاؤم في سرده لجرائم الإبادة التي تمّت في العالم، وقد ضمّن كتابه ملحقاً لأقواله، تقشعرّ لها الأبدان، ولاسيما تلك التي منها، قول أحد جنرالات أميركا، وبعد إبادة الهنود سكان أميركا الأصليين: «لم أرَ هنوداً طيبين، إلا الهنود الموتى..
وجد «دوكر» أيضاً، بأن «دايموند» الذي كان تعريف الإبادة صعباً بالنسبة له، قد اعتبرها «ظاهرة بدأت منذ ملايين السنين، وأن الدافع الأكبر لارتكاب جرائمها، يحدث عندما يحاول شعبٌ قوي عسكريّاً، احتلال أرض شعبٍ أضعف منه، فيسعى هذا الشعب الأخير لمقاومة هذا الاحتلال».
يطوّر «رايموند» رؤيته هذه في كتابه «بنادق وجرائم وفولاذ»، فيسهب في ذكر الجراثيم التي تصيب الجنس البشري، مشيراً إلى دورها الكبير والخطير، الذي بدأ مُنذ رحلة «كولومبس» 1492، ويدلّ على ذلك بقوله: «الجراثيم التي حملها الغزاة الاسبان القَتلة، فتكتْ بالأميركيين الأصليين، الذين لم تكن لديهم مناعة مكتسبة أو وراثيّة، مما أدى إلى إبادة أعدادٍ كبيرة منهم، وبطريقةٍ كارثية».
الإبادة ومساءلتها.. في العالمِ القديم – اليونانيّ والاغريقيّ
يبحثُ دوكر» أيضاً، في أحداث العنف بين الجماعات، ومن ضمنها الإبادة، وفي الأسئلة التي تتضمّنها مؤلفات اثنين من مؤسّسي الكتابة التاريخية الغربية، وأعمال العنف في العصر الكلاسيكي الاغريقي، وهما «هيرودوت» و «ثوسِّدديس»، حيث عمله العظيم «تاريخ الحرب البيلوبونيزية في اليونان».
إذاً، الكتابة التاريخية هي العنوان الذي يشير إلى ما قدّمه هذين الكاتبين، اللذين أسّسا تاريخاً كونيّاً، وعالميّ الروح.. ذلك أن مؤلفاتهما «مضادة للنزعة القومية والتمركز المعرفي، ونقدهما العنيف والمحتج على أعمال العنف الجماعي والإبادة، التي تحدث أثناء الحرب والاستعمار والامبراطورية، وسواها مما لا يليق بالإنسانية، وغالباً ما يتسبّب الاستعمار عندما يكون جزءاً من مشروع التوسّع الامبراطوري، بإيذاء الناس الذين يعيشون في المنطقة»… هنا، تشتعل الحروب وأعمال الإبادة، وتهجير السكان والتطهير العرقي، وغير ذلك من الحوادث التي تدل على نوع القيم القوميّة المتمركزة عرقياً، والاستعلاء والغطرسة التي تقلق الشعوب، وتهدّدها بأكثر الكوارث خطورة عليها وإبادة لها.
يقدّم الكاتب أمثلة، منها حروبٍ حدثت في التاريخ، وجرائم جداً فظيعة، وأيضاً مجازر وحروب أهلية وعالمية، جاء الموت فيها «على كلّ شكلٍ وهيئة»، فقد اقترف الناس «البشعَ والأبشع»: آباءٌ قتلوا أبناءهم، وبعض الناس يقتلون بسبب الكراهية، أو يقتلهم دائنوهم بسبب النقود التي اقترضوها ولم يسدّدوها.. البعض أيضاً، يُسحَلُ من المعابد، أو يُقتل داخلها، على المذابح نفسها..
يواصل الكاتب تحقيقاته في العنف والإبادة والعالم المقلوب رأساً على عقب، في المسرحيّات التراجيديّة في العالم الاغريقي القديم، معتمداً هذه المرّة، على مسرحيات مثل «أغاممنون» لـ «أسخيلوس»، و»نساء طروادة» لـ «يوريبيدس»، وغيرهما ممن جعلوه يتأمّل عواقب الإبادة وتأثيرها على كلّ من الجناة والضحايا، وخاصة النساء والأطفال، الذين سُفّروا عبيداً إلى بلادٍ بعيدة..
يشير هنا، إلى أن «دراسات الإبادة هذه، تلتقي بالدراما الاغريقيّة، إذ خلقت هذه المسرحيات فضاءً لعرض القيم الأساسيّة، وللتأويل والمساءلة والطعن والكارثة والندب»..
أما عن المنهج التحليلي للإبادة، فينقل حرفيًّاً عن قول المؤرّخ «لمكِن» عن ذلك، مثلما عن طرقها وأنواعها:
«الإبادة الجسدية: المجازر، التمثيل بالجثث، الحرمان من سبل المعيشة بالتجويع، وترك البشر في العراء، والعبوديّة..
الإبادة الحيويّة: فصل العوائل، الاخصاء، قتل الأجنّة.
الإبادة الثقافية: تدمير وتدنيس الرموز الثقافية، الكتب، الأعمال والآثار الفنيّة، النهب، تصفية العقول، تدمير المراكز الثقافية، المدن، الأديرة، الكنائس، المدارس والمكتبات، وحظر الأنشطة الثقافية، وتثبيط الهمم.. «.
المدينة الفاضلة.. والمدينة الفاشلة
أول ما يبدأ به الكاتب في هذا الفصل، استدعاء سخرية «شيشرون» وقوله في كتابه «الجمهورية والقوانين»: «بنارِ امبراطوريّتك تصادر أراضي الشعوب، وتغتني على حسابهم، وقادة الحرب العدوانيون، يُعدَّون مثالاً للشجاعة والتفوق.. أما معلّمو الفلسفة، فيخلعون رداء التراث والسلطة، على الجهل والجريمة…
يستدعي هذا القول الساخر لـ «شيشرون» ليناقش بعدها، علاقة المواقف والقيم بالامبراطورية والغزو والحروب والاستعمار والاستشراق، وهي مواقف نقلها عن نصوصٍ شهيرة، تنتمي للفترة الإغريقية ـ الرومانيّة، في الفلسفة السياسية والملحميّة، والكتابة التاريخية، ومنها «جمهورية شيشرون» و»إنيادة فرجيل» وغيرهم، سائلاً بعد الإشارة إليهم:
كيف يمكن للمرءِ أن يكون مستعمراً نبيلاً؟.. هل تسبِّب الامبراطورية والمستعمرون الموت والحرمان والدمار، أم هم ناقلوا ثقافة وقانون يستحقّون الثناء؟.. هل يدمّرون أكوان الشعوب الأخرى ويبيدونها، أم أنهم يضمّون هذه الشعوب إلى كونٍ أشمل، مصدّقٌ عليه إلهيّاً؟..
لم يستلهم الكاتب أسئلة هذه، من جمهورية «شيشرون» فقط، بل وجمهورية «أفلاطون»، فهو يرى بأنهما معاً، معنيّان بالحكمة السياسية، ومثالية الدولة، ولهما الخصائص الجمالية نفسها، فلسفةَ وأدباً.. لكن، اختيارهما كليهما للشخصيّات غريب جداً، بالنسبة للمهتمّين بمسألة الإبادة…
إن ما أراد «دوكر» قوله: إن ما تناوله من نصوص أساسية، من العالَمين الكلاسيكي الاغريقي، والاغريقي الروماني، أمدّه بفكرة أن «التراث المتحوّل والمتعدّد، كان مؤثّراً لقرونٍ عديدة في الاستعمار الأوروبي، واستمرّ على المنوال نفسه، فتشابكت وتبلبلت الأفكار، والمُثل والتمثّلات والصور وأطوار الحساسيّة والوعي، المنقسمة والمتناقضة، لمدة ألفي عام»..
بعد فكرته هذه، يدرس الأفكار المتعلّقة بالاستعمار، والفترة الاستعماريّة في مطلع أوروبا الحديثة، على ضوءِ مفاهيم مثل: الإبادة، علم الضحية، الشعب المختار، الأرض الموعودة.. الخ… مشدّداً على الوسائل المتشعّبة والمتناقضة والمتغايرة، التي برّر بها المستعمرون الأوروبيون، من مطلع العصور الحديثة فصاعداً، مشاريعهم الاستعماريّة التي تشمل كلّ ما يتعلّق بقانون الأمم، أو القانون الدولي، وادّعائهم بصفاءِ مقاصدهم، والتبريرات التوراتيّة والأسطوريّة والعجائبية..
هذه الدراسات، تمّت عبر قراءته في مسرحية «العاصفة» لـ «شكسبير»، والنزعة الاستعمارية لـ «أندرو فتزمورِس»ّ. أيضاً، في مقالة «نيتشه»: «علم الأنساب والتاريخ».
العنفُ والإبادة.. نابعان من تاريخِ اسرائيل – الصهيونيّة؟!!
بعد كلّ ما تناوله «دوكر» عن تاريخ العنف والإبادة، يشعر بأن أفضل ما يمكن أن يختتم به، تقديمه لفكرة «غاندي»، ولكن من وجهة نظره.. ذلك أنه أراد أن تبقى أفكاره في اللاعنف، بديلاً أساسيّاً لانخراطِ العالم اللانهائي في العنف، ماضياً وحاضراً…
يشير هنا، إلى أن فكر «غاندي» اكتشف اهتماماً كونيّاً وعالميّاً، تعدّدياً ونقديّاً، في العديد من الأديان. ذلك أنه، أي «غاندي»:
لا يرى في اللاعنف مجرّد استراتيجية أو تكتيك، يصلح في مناسبات معيّنة، وإنما هو بالنسبة له، طريقة حياة ومزاج الروح والكينونة، وولادة روحية أو تربية، وحالة من التأمّل الأخلاقي».
أما ما يراه مؤسفاً ومحزناً، فهو عدم قدرة مبادئ «اللاعنفيّة»، على تحقيقِ إلا تقدّم بسيط، في عالمٍ ورث تراثاً طويلاً جداً، من الأفعال والأفكار التي تسوّغ العنف بين الجماعات، حيث ينظر في هذا التراث، إلى الاستعمار والغزو وبناء الامبراطورية وسيادتها، بوصفها أعمالاً نبيلة، ونواياها خيّرة، وموجّهة لحمايةِ المظلوم والضعيف، وهو مالم يكن، والدليل:
«أشدّ أمثلة التدمير الإبادي فظاعة في القرن العشرين، المحاولات اليوميّة المستمرّة لحكومات اسرائيل الصهيونيّة، الساعية لتدمير مقومات الحياة لدى الفلسطينيين، ففي أواخر عقديّ الثلاثينيات والأربعينيات، من القرن العشرين، استنكر «غاندي» المخططات الصهيونيّة للاستيلاء على فلسطين، قائلاً أنها ستؤدّي إلى تهجير وإذلال عرب تلك المنطقة، وبأن العنف والإبادة نابعان من تاريخ اسرائيل الصهيونيّة»..
يقع الكتاب في 342 صفحة. إصدار: جامعة الكوفة – سلسلة الدراسات الفكرية 2019.. ترجمة: د. «علي مزهر».. مراجعة: د. «حسن ناظم». لوحة الغلاف: الفنان «حسين الطائي».
التاريخ: الثلاثاء9-11-2021
رقم العدد :1071