الملحق الثقافي:ألوان إبراهيم عبد الهادي:
عندما قرأتُ رواية «كوثر – حياة امرأة» للمرّة الأولى، شعرت بأن عليّ أن أقرأها ثانية، وربما بسبب أسلوب الروائية د. «آداب إبراهيم عبد الهادي» وقدرتها على ايصال مأساة البطلة، وتفاصيل دقيقة من مسيرة حياتها، وهي في يفاعتها تواجه المجهول الذي ينتظرها، وإرادتها في مقاومة المستعمر الفرنسيّ المتربّص بالثوار.
تثيرك أحداثها، فتتحرّك معها كمشاهدٍ ومراقبٍ ومتفاعلٍ مع شخصياتها، وكأن الكاتبة تريد من رصدها للحالة الاجتماعية، تبيان المعاناة التي عاشتها المرأة السورية في فترة الحرب العالمية الثانية، والاحتلال الفرنسي الغاصب.
زمان ومكان الرواية، في ريف حلب، حيث توجد أسرةٌ تعمل في رعي الأغنام والفلاحة، وهي مؤلفة من ثلاثة أخوة وبنتٌ وحيدة، الأم اسطنبولية أحبها زوجها في حرب سفر برلك، وقد تميّزت بالحكمة والرزانة والصمت والتهذيب، وكان يشاركها الرأي في كلّ شؤون الأولاد، عكس عادات رجال قرية «أم البطم» آنذاك، حتى أنه أيّد رفضها بتزويج ابنتها الصغيرة من قريبها الذي يزيدها ثلاثين عاماً.
بدأت الرواية، بقتل «سلمى» صديقة «كوثر» التي كانت قد أخفت عنها علاقتها بالشاب «سالم» وحملها غير الشرعي منه، ما أثّر بها ودفعها لاعتزال غرفتها، ومن ثمّ، وبعد رفض الشاب التقدّم لخطبتها، سعيها وبعد أن أخبرتها والدتها بأن الشيخ المجاهد «مشهور» في القرية المجاورة، سيأتي ليطلبها لولده «فاضل».. سعيها لحزم أمتعتها، والانطلاق قبل بزوغ الضوء، وقبل أن تستيقظ القرية وأهلها إلى الحقل.
عن قريتها هذه، تقول الكاتبة:» قريةٌ نائية مجهولة، لا تعرف حتى الآن، أن الحرب العالمية الثانية التي اندلعت من ثلاث سنوات، ما زالت مستمرّة إلى اليوم، قرية لاهمّ لها إلا الحفاظِ على الشرف، والشرف بالنسبة لهم، هو أن تحافظ بنات القرية على أنفسهن».
اجتازت «كوثر» الطريق المؤدّية الى المدينة، هرباً من المصير الذي كان ينتظرها، ذلك أن أمر قتلها لغسلِ عارها، لم يكن شأن عائلتها وحدها، بل كان شأن كلّ أهل القرية، وهو العُرف الذي ترك للوالد، مهمّة بقر بطنها وذبحها فقط.
لهذا هربت، غامرت وتحدّت الظلام، رغم أنها وكما وصفتها الكاتبة: «فتاة في الخامسة عشرة من عمرها، حتى لو كانت بعرف مجتمعها وقريتها ناضجة، إلا أنها ما تزال تحلم بحلويات وألعاب العيد».
هكذا تدخل «عبد الهادي» إلى أعماقها، تشرح حالها وما يجول في روحها من ألمٍ وقلقٍ وضياع، والدمع ينسكب على وجهها الملائكي، كان «فاضل» يراقبها، وكان بمثابة الصدفة السعيدة بالنسبة لها، فقد ساعدها ودفع لها ثلاث ليرات أجرة العربة، وأوجد لها غرفة في حيٍّ شعبيّ آمن، بعد أن نبّهها من جنود المحتل الفرنسي ووحشيّتهم.
«فاضل»، شابٌ في الخامسة والعشرين، لم تكن تعرفه، لكنها ارتاحت له، لاسيما بعد أن أخبرها أنه من الثوار المناضلين، وبأن البيت الذي استأجره لها للثوار، ولن يروها أو تراهم، لأنها ستبقى في غرفتها لدى اجتماعهم.
قبل أن يستشهد سألها عن اسمها، ووعدها بأنه لن يتخلّى عنها، وسيهتمّ بولدها، دون أن يسألها، من أين أتت ولماذا، ارتاحت وشعرت بأن القدر فتح لها أبوابه، لكنه عاد وصدمها عندما علمت بهجوم الفرنسيين على الثوار، واستشهاد «فاضل» إثر عملية الهجوم تلك.
بعد حدادٍ دام أربعين يوماً، خرجت تبحث عن عملٍ، وعن انتقامٍ لـ «فاضل» البطل، ولكن براعة الكاتبة في مزامنة حركتها هذه، مع حركة أخويها اللذين كان يبحثان عنها، ليفصلا رأسها عن جسدها، جمدت عروقها ونقلتها خطوة واحدة للنجاة منهما.
مرّة أخرى قرّرت الهروب، وهذه المرّة إلى العاصمة دمشق، وكانت الانفعالات العنيفة التي تحيق بها، تجعلها تفكّر كيف ستواجه هذا الحمل الثقيل، وكيف هو حال عائلتها المشتعلة قلقاً وإحساساً بالعار؟.
تركّز الكاتبة هنا، على الفترة الزمنية للأحداث عام ١٩٤٤ وانتشار الثوار في أحياء حلب وقُراها، وتلقّي الشيخ «مشهور» التعازي في القرية، لاستشهاد «فاضل»، والعمل على استمرار المواجهة، تبدّل حال أهل «كوثر» وانعزالهم، وذهاب أخويها للبحث عنها، وترك العمل في الحقل للأخ الأصغر، وشلل الأم وملازمتها الفراش، بل وقسوة زوجها عليها، واتّهامه لها بالخيانة.
انهدام الأسرة يقابله عند «كوثر» عذابين: عذاب أسرتها، واستشهاد «فاضل»، وطريقها المجهول.
تصل المحطّة، وتنطلق إلى دمشق، تسأل السائق عن نزلٍ للعائلات، يكون سعره مقبول، يوصلها إلى نزلٍ في سوق الحميدية، تبقى فيه شهراً، لتطلب بعدها من صاحبه، وبعد أن أنفقت كلّ ما لديها من نقود، أن يصبر عليها لحين تأمين عمل، إلا أنه يطردها عندما ترفض استغلاله لها، وتصبح في الشارع من جديد.
تذهب الى الجامع الأموي، تبكي وتنتظر إلى أن يقذفها القدر بيد «أم زكي» الثلاثينيّة التي تساعدها، وتأخذها إلى نزلها بانتظار أن تضع حملها.
هنا، تعرض الكاتبة حالة الولادة والغيبوبة التي صاحبتها، لتوقظ اللاشعور في أعماق طفلة تصارع مخاضها الأوّل، بحزنٍ وافتقادٍ شديد لحضنِ أمها، التي كانت توارى الثرى، دون أن يخرج في جنازتها سوى الأولاد والزوج، و»سلمى» التي بكتها دماً، وشيخٌ قرأ الرحمة على روحها..
يموت طفل «كوثر» فتصاب بحالةٍ هستيرية، وكانت تنوي تسميته «فاضل».. الشهيد الشهم والبطل الثائر على المحتل، والمدافع عن المظلومين..
لقد كذبت «أم زكي» على «كوثر» بشأن موت طفلها، ذلك أنها سلّمته لمديرة دارٍ للأيتام، بدعوى أنها غير قادرة على الاعتناء به، موت أمه القادمة من حلب، واسمها «حياة»..
هكذا خسرت «كوثر» ابنها وأهلها الذين لم تعد تعرف شيئاً عن أخبارهم، وكان والدها قد باع البيت والأرض، وترك القرية واشترى بيتاً في مدينة حلب، وفتح مطعماً ذاع صيتُ ما يقدّمه من المأكولات والوجبات، لكن حزنه على فراق زوجته أعياهُ فاضطرّ لتسليم المطعم للأخوة، وفي هذه الفترة، كانت «أم زكي» تحضّر «كوثر» لسهرة مع الجنرال «جون» كي تنتقم لبطلها «فاضل».. ذهبت إلى السهرة، وبعد أن أصبح مخموراً طعنته بالسكين، منتقمة بذلك لبطلها وأرضها، وقائلة: «تضربون الشام وتحرقونها يا أولاد الكلب. هذا هو جزاؤكم».
تنقلنا الكاتبة خطوة خطوة، مع تصاعد الأحداث زمانياً ومكانياً، إلى سعي «كوثر» لمقارعة الجنود الفرنسيين، والانتقام منهم واحداً إثر الآخر. تتذكر «سالم» الذي دمّر حياتها، وتندم لأنها لم تقتله، لكنها تبتهج لقيام إحدى فتيات القرية بقتله، بعد أن دمّر حياتها أيضاً، بل وحياة غيرها من فتيات القرية.
هذه الأحداث أفرحت «كوثر»، وزاد فرحها بإعلان استقلال سورية.. تزيّنت ورقصت من شدّة فرحها، كمناضلة مثل «فاضل». البطل الذي كان أوّل من باركت استشهاده، وهنّأته بالاستقلال..
الفضاء الزماني للرواية يعجّ بالأحداث والمفاجآت، والمرحلة الزمنية مضطربة ومتقلّبة.. نكبة فلسطين، وإنشاء وطن للكيان الصهيوني فيها، وموت والد «كوثر»..
تتطوّر الشخصيات بشكلٍ تصاعدي، فأشقاؤها الذين في حلب، ويعملون في المطعم الذي تركه لهم والدهم، ازدادوا خبرة في الحياة والمجتمع، مثلما اندماجاً بكلّ النخب المثقّفة والمناضلة، فأصبحوا أكثر مرونة وتطوّراً وانفتاحاً.
أما هي، فقد أعجب بها أحد الشباب.. «مروان» الذي كان قد صادفها فتعلّق بها بشكلٍ غريب، وطلب أن يراها مرة ثانية.. وعدها أن يخرجها من النزل الذي تقيم فيه، وأن يستأجر لها وله سكناً، ليعيشا كأمٍّ وابنها.. لكن، وكلّما أخذت خيوط النور تضيءُ لها الدرب، يداهمها الظلام وتبقى وحيدة، ذلك أن الحزب الذي ينتمي إليه هذا الشاب، قرّر إيفاده إلى موسكو لمتابعة دراسته طبيّاً، بعد أن حصل على الشهادة الثانوية، وكان في الثامنة عشرة من عمره.
أملٌ جديد يغادر قلب «كوثر» الأم، ودون وداع.. فتتغيّر صحّتها وتمرض، وتنعزل في غرفتها لأكثر من سنة. تمتنع عن استقبال أحد في غرفتها، بعد رحيل «مروان» الذي وحده من كان يعرف، بأنها ثائرة ومناضلة شاركت بالاستقلال، وقتلت ضابطين فرنسيين دفاعاً عن شرف بلدها.
بعد رحيل «مروان» أصبحت ضائعة ومشتّتة ومضطربة، ثورات وانقلابات وتهديدات من السرطان الذي زُرع في قلب الأمة.. الكيان الصهيوني الذي لم يتوقف عن القتل والتدمير والتهجير والمجازر..
إنه ما دفع إلى تشكّل المقاومة الفلسطينية، وقيام الشباب بالانضمام إلى المقاومة خلال فترة الوحدة، وأضحى الانتقام والدفاع عن شرف الوطن، أهم من الدفاع عن أيّ شيءٍ آخر، وهكذا سعى هؤلاء الشباب، للنضال من أجلِ استعادة أرضهم، ليس في قريتهم «أم البطمم»، بل في فلسطين المحتلة، وبالأخصّ بعد أن استشهد الشيخ المجاهد «مشهور» فيها، كما كان يرغب.
تُظهر الكاتبة «عبد الهادي» هنا، شراسة الاغتصاب بأنواعه، فقد نشب صراعٌ عنيف بين «كوثر» و»أم زكي» التي استغلّتها لسنواتٍ، لينتهي هذا الصراع، بمغادرة «كوثر» لنزل «أم زكي» تاركة لها ما تحمله من عهرٍ، تتصيّد به الفتيات اليافعات البريئات، وترسم ابتسامتها في خضمِ مآسيهنّ ووجعهنَّ.
تبدأ «كوثر» بالبحث عن بيتٍ في أحد الاحياء الشعبية، لتعمل بعدها في أحد المشافي الخاصة، ومن ثم في مكتب مدير المشفى، وكانت تساعد الأطباء في تضميد الجرحى والشهداء، وقد لفتها شابٌ خمسيني شعرت بأنها تعرفه.. إنه شقيقها «هزاع»، الذي عرفته مُذ نظر إليها محاولاً نطق اسمها بصعوبة، وقبل أن يودّع الحياة، لحظة كان الطبيب ينزع الرصاصة من جسمه..
تصرخ بكلّ جوارحها المتألمة والفخورة بالأخ الشهيد، وتلقب بأخت الشهيد، وتحظى باحترام جميع الزملاء.. لكن، وقبل أن تغادرها الكوابيس التي ترى فيها شقيقها مدمّى، يلحقه شقيقها الآخر، ليليهِ الأصغر الذي دفع روحه أيضاً، وهو يسعى لردّ القذيفة عن صديقه «جمال».
تسمّى قريتهم، قرية الأخوة الشهداء، ويطلق على مطعمهم، مطعم الأخوة الشهداء، وتتصدر صورهم كلّ الأمكنة.. أما «كوثر» فتلحظ مع الطبيب مدير المشفى، طبيباً كأنها تعرفه، يخرجا مسرعين، وتعلم أنه صديقه في الدراسة بموسكو، واسمه «مروان».
فيما بعد، سألت الطبيب عنه، فأخبرها بأنه تزوج وعاد إلى موسكو، وأنه حزين ولا يفكّر بالعودة إلى دمشق، لأنه لقيط.. هنا تُدرك أنه ابنها، ويساعدها الطبيب على التأكّد بأن صديقه الدكتور «مروان»، بل «فاضل» كما كانت قد أسمته.
تصل إلى الميتم، وتتأكّد من مديرته الجديدة، فتخرج مهرولة للبحث عن المجرمة «أم زكي» والانتقام منها، لكنها تجدها عجوزُ، حطّ بها الزمن بعد شبابٍ.. تخبرها بأنها أتت لتردّ لها الجميل الذي قدمته، تهدّدها بالسكين التي قتلت بها الفرنسي، إن لم تخبرها بالحقيقة التي اكتشفتها ولكن، بعد سنوات طويلة..
تتركُ الكاتبة نهاية الرواية مفتوحة، وبحبكةٍ مؤلمة وصادمة، ذلك أن «كوثر» التي قامت بربطِ «أم زكي» وفصدِ عروق يدها بالسكين، وتركِها حتى تموت، لتدلّ عليها رائحة جثّتها، انتهت إلى السجن، وقد حُكم عليها بالإعدام.
الطبيب صديق ابنها «مروان» يسافر لحضور مؤتمر في موسكو، فيلتقيه ويخبره بالقصة المفجعة، وبالنهاية التي تنتظر والدته، فيقرّر المجيء الى دمشق، واستئناف الحكم..
هكذا تختم الكاتبة حكاية «كوثر» ولكنها تروّسها، ببوادرٍ قد تكون مفرحة في لحظات العمر الاخيرة، أو مبلسمة لجراحِ أمٍّ فقدت طفلها، دون أن تلمسه يدها أو تراه عينيها، ليأتي وينقذها من حكم الاعدام، أو لتضمّه ولو مرّة إلى صدرها.
تميزت الرواية بأسلوبها السرديّ المتقن، وتداخل الأحداث لدى شخصيات فضائها الروائي، بدءاً من أحداث الاربعينيات والخمسينيات، ونكسة ١٩٦٨ وفاجعة احتلال الجولان.. لكن، قد تدهشنا الروائية في جزءٍ ثانٍ، أكثر تفاؤلاً وانفراجاً لأوضاع المرأة في النصف الثاني من القرن المنصرم.
الرواية إصدار: «دار أعراف» طرطوس، وتقع في 259 صفحة من القطع المتوسط.. الغلاف، تصميم الفنان: «عبد الفتاح أبو سعدة»..
التاريخ: الثلاثاء9-11-2021
رقم العدد :1071