يأتي في منتصفِ الليل

 

الملحق الثقافي:أمين الساطي :

الرياحُ العاتية تعصفُ بأغصانِ أشجار الزيتون، وتجرّدها من أوراقها النابعة بالحياة، بينما ضوءُ القمر الشاحب المغلّف بالغيوم، يتسلّل بخجلٍ من النافذة الصغيرة الموجودة في غرفتنا، وقد أمسيت قادراً بصعوبةٍ على رؤيةِ وجه صاحبي أبي مسعود، المتجمّد مثل وجوه الموتى، ونحن جالسون ندردش ونشرب المتة في بيته، وكلبي السلوقيّ الأغبر، ممدّدٌ على أرضيّة زاويةِ الغرفة.. لقد قالت مذيعة نشرة الأخبار في الصباح: «من المتوقّع أن تكون ليلة ممطرة مع رياح شديدة». لكن حتى الآن، لم نسمع إلا صوت الرياح الكئيبة.
قطع حديثنا صوت ثلاث نقراتٍ خفيفة متتابعة على السقف، لا شكّ أن الكلب أحسَّ بها، فبدأ بالنباح، كما لو كانت حياته في خطر.. شاهدنا ظلّاً لرجلٍ أسود طويل، يمرُّ بسرعةٍ أمام نافذتنا، وتصوّرنا بعدها، بأن أحدهم يحاول أن يفتح قفل باب الدار، فركض أبو مسعود وأخرج من الخزانة الخشبية المتهالكة، بندقية صيدٍ بدت لي صدِئة لا تصلح للاستعمال، لكنه طمأنني بأنها ورغم قِدمها، من نوع «سجوجرين» السويدية، نصف الأوتوماتيكية، وفيها خراطيش عيار واحد، قادرة على أن تفتح ثقباً كبيراً في بطن البني آدم، وتقتله فوراً، ولقد شاهد ذلك بأمّ عينيه.
شعرتُ بدايةً بالارتياح لوصفه فاعلية البندقية السويدية، وبعد أن تلاشت الأصوات، وتوقّف الكلب عن النباح، وحلَّ السكون من جديد، شعرت برعبٍ حقيقي من منظرِ البندقية، وعدنا مرّة ثانية للدردشة، وتطرّقنا إلى الحديثِ عن الموت، فذكرت له بأن أمي المرحومة في آخر أيامها، كانت تخاف الليل، لأنها ترى أشباح صور أهلها الأموات على حيطان بيتنا. لكن، عندما تشرق الشمس تغمرها السعادة، وكأنّ روحها رُدت إليها، فقد كانت تخاف أن تموت ليلاً.
بدأت أستعرض أسماء الأشخاص الذين أعرفهم، والذين ماتوا خلال الليل، إنها سلسلة طويلة لا تنتهي، وعندما جاء دور أبي مسعود، ذكر بأن أباه وأمه ماتا أيضاً خلال الليل، حتى إنه وصل بالنهاية إلى قناعة، بأن جميع الأشخاص الذين يعرفهم ماتوا في منتصف الليل.
عندما وصلنا إلى هذا الاستنتاج، قام أبو مسعود، وأشعل مصباح زيت الكاز، ووضعه على الطاولة، فشعرت بنوعٍ من الارتياح، ثم نظر فجأة إليَّ بعينين مملوءتين بالهلع، وبادرني بسؤاله: أتعرف عمي أبي محمود؟ الذي رفض أن يزوجني ابنته سميّة، التي هي حسب الأصول، من حقّي ونصيبي، وفضّل عليَّ ابن مختار ضيعة كفر الزيات؟.. تذكرت لحظتها قصة عمه وابنه البكر، اللذين هربا منذ عدة أشهر، بسبب الأحداث في سورية، فهززت رأسي بالإيجاب: «الله يرجعهما بالسلامة».
التفت نحوي: «أيُّ سلامة، لقد ذهبا عند الله، ولن يعودا».. ازداد خوفي من منظر الخطوط الحمراء التي برزت في بياض عينيه، بعد أن أدرك خطورة زلّة لسانه، لقد ندم على سرد هذه القصة، لكن بعد فوات الأوان. قاطعته متظاهراً بالبراءة: «يجب أن أعود إلى بيتي، فقد أخبرت زوجتي بأنني لن أتأخّر بالسهرة».
غادرت منزله بسرعة وعلى عجلٍ، وأحسستُ بالرياح الشمالية الغربية، تلفح وجهي، مزمجرةً غاضبةً مني.. تدفعني رغماً عني نحو شجرة زيتونٍ كبيرة قريبة من المنزل.. قرّرت الاحتماء بها حتى تخفَّ شدة الرياح، لأتابع بعدها طريقي إلى بيتي، وفي أثناء جلوسي على الأرض، سمعت وقع أقدامٍ خلفي، فتوقّف قلبي عن الخفقان، ثم بدأتْ خطواتي تتسارع باتجاه البيت.. التفتُّ إلى يساري، فشاهدت شبح شخصين يمران من أمامي، ولم أستطع تمييز ملامحهما من شدّة العتمة.
عندما وصلت منزلي، كنت في حالةِ إعياء شديدة، اندهشت زوجتي من منظري، فعلامات الفزع باديةٌ على وجهي، وأكثر ما أثار رعبها وجود بعض البقع الترابية الملتصقة بوجهي ويديّ وملابسي. لقد تصورت المسكينة بأنني على أبواب جلطة قلبية، فتجنَّبتُ الحديث معها عن القصة الغامضة التي حدثت معي، وذهبت فوراً إلى الحمام، واغتسلت بالماء البارد القارس، لعدم توافر الماء الساخن، وغسلت ملابسي التي كنت أرتديها بنفسي، وأويت بعدها إلى فراشي، محاولاً أن أنسى ما كنت قد شاهدته.
بعد العصر، استيقظتُ على صوت زوجتي وهي تهزُّني بلطف، وإشارات الهلع مرسومة على وجهها: «انهضْ.. رئيس المخفر على الباب، يريد رؤيتك». لم أستوعب كلماتها، لأنني كنت أغطُّ في نومٍ عميق.. لمّا وصلت إلى الباب، شاهدت رئيس المخفر، وبعد السلام سألني مباشرةً: «متى كانت آخر مرّة، اجتمعت فيها بصديقك أبي مسعود»؟. من صدمة السؤال، لم أتجرأ بالكذب عليه، فقلت: البارحة ليلاً.. أجابني: المسكين، وجده جاره أبو غسان اليوم مقتولاً، وعندما كشفت على البيت كان المنظر فظيعاً، فالدماء الغزيرة تناثرت على الجدران، وكأنَّ وحشاً أو آلة حادة قد فصلت رقبته عن جسده، وكان هناك على أرضية الغرفة غطاء خرطوشتين فارغتين، ما يفيد بأن المرحوم قد أطلق النار مرّتين، من بارودة الصيد الملقاة إلى جانبه، قبل أن يفارق الحياة..
هناك آثار دماء كثيرة مختلطة بالغرفة، لا شكّ أنه أصاب الذين اعتدوا عليه بجروحٍ بليغة، ولكنني لم أجد بجانبِ جثته، أيّ بقايا لبني آدم أو حيوان، لقد طالبت فوراً بحضور الطبيب الشرعي من دمشق، للتحقيق في آثار وطبيعة هذه الدماء، ولا أخفي عليك، أنني ورغم خبرتي الطويلة بمناظر الدم، فقد بدا لون بعض بقع الدم الصغيرة المتناثرة على الجدران غريباً، ويميل إلى السواد..».
أنهى حديثه: «من الأفضل أن تُبقي باب البيت مقفولاً بالمفتاح طوال الوقت، وأن تخبر زوجتك وابنك ألا يغادرا البيت إلا في الحالات الضرورية، حتى يحضر الطبيب الشرعي، ونحلّ لغز هذه الجريمة».. هززت رأسي بالموافقة، وأنا أحدّث نفسي: الموضوع قد انتهى.. رحمة الله عليك يا أبو محمود.

 

التاريخ: الثلاثاء9-11-2021

رقم العدد :1071

 

آخر الأخبار
وزارة الثقافة تطلق احتفالية " الثقافة رسالة حياة" "لأجل دمشق نتحاور".. المشاركون: الاستمرار بمصور "ايكو شار" يفقد دمشق حيويتها واستدامتها 10 أيام لتأهيل قوس باب شرقي في دمشق القديمة قبل الأعياد غياب البيانات يهدد مستقبل المشاريع الصغيرة في سورية للمرة الأولى.. الدين الحكومي الأمريكي يصل إلى مستوى قياسي جديد إعلام العدو: نتنياهو مسؤول عن إحباط اتفاقات تبادل الأسرى إطار جامع تكفله الإستراتيجية الوطنية لدعم وتنمية المشاريع "متناهية الصِغَر والصغيرة" طلبتنا العائدون من لبنان يناشدون التربية لحل مشكلتهم مع موقع الوزارة الإلكتروني عناوين الصحف العالمية 24/11/2024 رئاسة مجلس الوزراء توافق على عدد من توصيات اللجنة الاقتصادية لمشاريع بعدد من ‏القطاعات الوزير صباغ يلتقي بيدرسون مؤسسات التمويل الأصغر في دائرة الضوء ومقترح لإحداث صندوق وطني لتمويلها في مناقشة قانون حماية المستهلك.. "تجارة حلب": عقوبة السجن غير مقبولة في المخالفات الخفيفة في خامس جلسات "لأجل دمشق نتحاور".. محافظ دمشق: لولا قصور مخطط "ايكوشار" لما ظهرت ١٩ منطقة مخالفات الرئيس الأسد يتقبل أوراق اعتماد سفير جنوب إفريقيا لدى سورية السفير الضحاك: عجز مجلس الأمن يشجع “إسرائيل” على مواصلة اعتداءاتها الوحشية على دول المنطقة وشعوبها نيبينزيا: إحباط واشنطن وقف الحرب في غزة يجعلها مسؤولة عن مقتل الأبرياء 66 شهيداً وأكثر من مئة مصاب بمجزرة جديدة للاحتلال في جباليا استشهاد شاب برصاص الاحتلال في نابلس معبر جديدة يابوس لا يزال متوقفاً.. و وزارة الاقتصاد تفوض الجمارك بتعديل جمرك التخليص