الثورة – عبد العظيم المغربل:
يُعدّ الحديث عن طرح عملة سورية جديدة واحداً من أكثر الموضوعات حساسية في النقاش العام اليوم، نظراً لارتباطه المباشر بقوت المواطن اليومي، وبثقة المجتمع بالعملة الوطنية ومجمل السياسات الاقتصادية، خصوصاً مع مرور عام على سقوط النظام المخلوع.
فبعد سنوات طويلة من التضخم وارتفاع الأسعار وتآكل القوة الشرائية وتضخم الأرقام في الفواتير والموازنات والرواتب، بات السؤال الأكثر طرحاً خلال الأشهر الفائتة: هل أصبح تغيير شكل الليرة وقيمها الاسمية ضرورة فنية فقط، أم أنه مدخل إلى مرحلة أوسع من الإصلاح النقدي والمالي؟
إن أي خطوة من هذا النوع لا يمكن النظر إليها بوصفها مجرد استبدال أوراق نقدية قديمة بأخرى جديدة، أو حذف عدد من الأصفار من القيم المتداولة؛ فهي في جوهرها رسالة اقتصادية وسياسية في آن واحد، تعكس توجه الدولة نحو ضبط المنظومة النقدية وإعادة تنظيم العلاقة بين سعر الصرف والأسعار ومستوى الدخل.
الخلفية الاقتصادية والنقدية لطرح ليرة جديدة
يأتي الحديث عن طرح عملة سورية جديدة في سياق إعادة بناء المنظومة الاقتصادية، إضافة إلى عدم وجود استقرار في المستوى العام للأسعار وتأثر القدرة الشرائية، فقد أدت موجات التضخم المتراكمة إلى تأثر الحياة اليومية، بدءاً من أسعار بالآلاف والملايين، وفواتير مليئة بالأصفار، ورواتب وأجور فقدت جزءاً من قيمتها الحقيقية بالرغم من وجود زيادات، الأمر الذي جعل التعامل بالأرقام الحالية أكثر تعقيداً.
كما شهدت المنظومة النقدية عجزاً واضحاً رافقته تذبذبات في سعر الصرف الذي أصبح منضبطاً خلال الفترة الأخيرة، وازدياد الاعتماد على العملات الأجنبية في التعاملات، كما أصبح البحث عن أدوات تعيد تنظيم النقد وتبسط هيكل الأسعار وتسهل العمل المحاسبي ضرورة فنية وموضوعية.
من هنا جرى النظر إلى طرح ليرة جديدة وإعادة هيكلة الفئات كأحد السياسات الاقتصادية الرئيسية، وإذا ما جرى إدماجه في رؤية اقتصادية متكاملة، يمكن أن يسهم في استعادة الثقة بالعملة الوطنية، ويحد من تسارع التضخم ويمهد لمرحلة أوضح في العلاقة بين الكتلة النقدية المتداولة والإنتاج الحقيقي وسعر الصرف.
الإيجابيات المحتملة لطرح العملة الجديدة
يمكن لطرح عملة جديدة أن يفتح عدداً من الفرص الإيجابية على أكثر من مستوى، مثل تبسيط النظام النقدي والمالي؛ فإعادة هيكلة فئات العملة أو حذف صفرين من القيم الاسمية يسهل قراءة الأسعار والفواتير والحسابات، ويخفف من الأخطاء المحاسبية، ويجعل إعداد الموازنات والرواتب والتسعير أدق.
يحمل الإجراء على المستوى النفسي أثراً مهماً، إذ ستشكل العملة رمزاً لبداية مرحلة جديدة، فاقتصادياً، إذا ترافقت مع سياسات تحسن اقتصادي ستؤثر في المواطن الذي اعتاد خلال السنوات الماضية على تراجع متكرر في القوة الشرائية، وسياسياً، يعالج وجود هوية بصرية جديدة لليرة السورية بعض الآثار النفسية التي تركتها صورة رأس النظام المخلوع لعقود طويلة.
كما يسهم الإجراء في تعزيز كفاءة السياسة النقدية؛ فطرح فئات جديدة وتطوير وسائل الدفع الإلكترونية والبطاقات المصرفية بالتوازي مع الطرح الجديد يساعدان على مراقبة حركة السيولة، خصوصاً الأموال المتجهة لفلول النظام والهادفة إلى زعزعة الأمن، وما يرتبط به من اقتصاد غير منظم، وقد ينعكس ذلك تدريجياً على الحد من ظاهرة الدولرة الجزئية.
في هذا الإطار يقول دكتور الاقتصاد ياسر الحسين لصحيفة “الثورة”: ” إن الليرة الجديدة من المتوقع أن تبسط الحسابات اليومية وتخفف الضغط على الأنظمة المصرفية، وتمنح رمزية وطنية عبر أوراق حديثة أكثر أماناً، كما ستساعد في إعادة جزء من السيولة النقدية إلى النظام الرسمي، ما يعزز قدرة المصرف المركزي على ضبط التضخم، والإصدار قد يشكل أيضاً إشارة سياسية واقتصادية للانفتاح وجذب الاستثمارات والتحويلات الخارجية”.
السلبيات والتحديات والمخاطر المحتملة
أول هذه التحديات يتمثل في الخطر التضخمي إذا لم تُدر العملية بشكل مدروس؛ إذ قد يستغل بعض التجار والمضاربين مرحلة الانتقال بين العملة القديمة والجديدة لرفع الأسعار تحت ذرائع تقنية أو بحجة تقريب الأرقام، ما يحمل المواطنين أعباء إضافية.
التحدي الثاني يتعلق بالكلفة الفنية واللوجستية للعملية؛ فطباعة أوراق نقدية جديدة بمواصفات أمنية، وتأمين نقلها وتوزيعها إلى مختلف المحافظات، وتجهيز المصارف وأجهزة الصراف، جميعها خطوات تتطلب موارد مالية وإدارية كبيرة.
أما التحدي الثالث فيرتبط بمستوى الثقة الشعبي؛ فإذا لم يشعر المواطن أن العملة الجديدة ترافقها سياسات حقيقية لضبط الأسعار وتحسين الدخل، فقد ينظر إلى التغيير بوصفه إجراءً شكلياً لا يمس جوهر المشكلة.
التحدي الرابع مرتبط بانعكاس مرحلة التعايش بين العملتين على التجارة والصناعة في ظل تداول عملتين؛ إذ يضطر المنتجون والتجار للتعامل مع عقود وأسعار وتكاليف محسوبة بالعملة القديمة، بالتوازي مع فواتير وتسعير جديد بالعملة المعدلة.
وقد يسبب ذلك حالة من الإرباك في احتساب كلفة الإنتاج وهوامش الربح، ويفرض أعباء تقنية على المنشآت لتحديث أنظمتها المحاسبية، كما يمكن أن تنشأ خلافات في تفسير الأسعار بين مختلف حلقات السوق، ما قد يؤدي إلى تباطؤ مؤقت في حركة التبادل والتعاقد ريثما تستقر منظومة الأسعار بالعملة الجديدة.
بهذا الخصوص يضيف الدكتور الحسين: “إن حذف الأصفار لا يعالج ضعف الإنتاج أو التضخم المزمن، ما يجعله إصلاحاً شكلياً إذا لم يرافق بخطوات هيكلية، كما أن هناك مخاطر تضخمية عند عودة السيولة دفعة واحدة، إضافة إلى تكاليف الطباعة والتحديث والارتباك خلال الفترة الانتقالية”.
ولنجاح الإصدار يقترح الدكتور الحسين أن يتم ربطه بإصلاحات اقتصادية شاملة ودعم الإنتاج المحلي، مع حملة توعية تشرح آليات التحويل بين الفئات، كما أن تحديث الأنظمة المصرفية والصرافات قبل التطبيق ضروري، إضافة إلى إدارة السيولة بسياسات نقدية واضحة، واعتماد الشفافية والمساءلة لبناء ثقة مستدامة.
بالعموم، يتوقف نجاح طرح عملة سورية جديدة على أن يُنفذ بوصفه جزءاً من رؤية اقتصادية شاملة، لا كمجرد خطوة تقنية لتبديل الأوراق النقدية، فأي عملة جديدة تحتاج إلى بيئة داعمة من ضبط للعجز المالي، وتحفيز للإنتاج، وتحسين لمناخ الاستثمار، بحيث تستند قيمتها إلى قوة الاقتصاد الحقيقي، كما أن وجود سياسة نقدية واضحة وشفافة تنسق عن قرب مع السياسة المالية يعد شرطاً رئيسياً للحفاظ على استقرار سعر الصرف والحد من التضخم.
وسبق أن أكدت مصادر مطلعة لصحيفة “الثورة” أن إشهار العملة الجديدة سيكون في 8 كانون الأول المقبل، تزامناً مع عيد التحرير، على أن يبدأ الإصدار الفعلي نهاية العام الحالي، إذ يواصل المصرف المركزي تحضيراته لإطلاق العملة ضمن خطة إصلاحية واسعة تهدف إلى تعزيز الثقة بالليرة السورية وتنظيم التداول النقدي وتفعيل دور القطاع المالي في دعم النشاط الاقتصادي.