الملحق الثقافي:محمد الحفري *
«وللظلِّ نزفٌ آخر» لمؤلفها الكاتب العراقي «صفاء الصحاف» هي المجموعة الأولى من نتاجه، أو هي المجموعة البكر التي نعول عليها كثيراً في عالم الأدب، ففيها تتّضح معالم الكاتب الجوانيّة، وفيها جرأة الطرح، وهي تشير دائماً إلى خطواته المتميزة، وهو يقترف هذا الفنّ بما فيه من عسرٍ، يرافق ألم المخاض الذي يسفر عن ولادةٍ صحيحة وسليمة أحياناً، أو مشوهة في أحيانٍ أخرى، وعلى هذا الأساس يمكن الحكم على التجربة الكتابية، التي يدّعي الكثير من النقاد أنها بحاجةٍ إلى وقتٍ طويل كي تنضج، ونحن لسنا بصددِ الوقوف مع هذا التيار أو ضده، لكننا نؤكّد أن الولادة السليمة، تشبه ولادة هذه النصوص التي لم تأتِ من فراغ، بل نتيجة جهد وكدّ ومكابدات وقراءات، وربما تجارب حياتية لا يستهان بها أبداً.
نحن في هذه النصوص أمام تمتمة الهواء، ونضوج الفصول حيث تصبح النظرات بيدر حصاد، والشفاه أطفال يبكيها الجوع، والريح السارية تزلزل انبثاق الشوق، لتغدو المسافات القصيرة طويلة جداً. هذه العبارات وغيرها، تعانق الروح قبل العقل والتفكير، ويمكن أن تلبسنا معها الحيرة، وتأخذنا الدهشة، لأننا نقف قبالة لوحاتٍ فنية تستحقّ كلّ واحدة منها، أن نتأملها طويلاً وملياً، وأن نفكّر بها كثيراً، حيث جمال الفكرة ودهشة النص.
عوداً على ذي بدء، وأقصد مسألة الحيرة على وجهِ التحديد، لأن أغلب هذه اللوحات قد استوقفتنا بطرحها وأفكارها التي تأخذنا إلى تأويلاتٍ كثيرة، وكلّ واحدة تصلح أن نتحدث عن مراميها البعيدة، ويحلو لنا في هذا المقام أن نطلق عليها اسم لوحات، لأن فيها تشكيلاً له علاقة كبيرة بفنّ الرسم من ناحية، ولأن لها علاقة كبيرة بفنّ الدراما من ناحية أخرى، ومطالعتها قد تستدعي حدثاً ما، أو حواراً يمكن أن يدور بين الكاتب وبين شخصياته المضمرة، أو التي حاول أن يخفيها في تلافيفِ لوحاته وبين السطور، أو قد تكون محمّلة على أجنحة الكلام المحلّق في الأعالي، ولذا يمكن القول، إنها تحتمل أكثر من قراءة، وتلك من سماتِ النصّ الناجح، الذي تنتج مطالعته دائماً، اكتشاف الجديد بدلالاته وعمقه وسعته.
النصوص التي بين أيدينا، تبتكر مزاميرها المتمرّدة، والروح راقصة فوق المسامير، معلنة صرخة الوجع الجريئة في قولها للحقيقة، هازئة من خسارتنا التي نصرّ على اعتبارها انتصاراً، وهي تنثر الأحلام، لتنزف على جدارٍ قديم مردّدة كما يقول صاحبها: «كن بلا ذراعين، كي لا تعانق أحداً».. وربما هذا النص يعيدنا إلى الشّعر وهيبته وسطوته القديمة التي يقدمها الكاتب في هذا الزمن بطريقة الحداثة، وذلك من خلال تصديه لموضوعاتٍ شتى وكبيرة في آن، وقد انكفأ عنها الشعر في وقتنا الراهن، وتراجعت الكثير من نصوصه، لتعاني من سذاجةِ المعنى ورداءة التسطح، وفي نصّه الذي يصف فيه تشقّق يديّ تلك المرأة بلونها العراقي، وهي تخبزُ على التنور صباحاً، تلك الأرغفة المقمّرة الشهيّة، يعيدنا إلى أصالة الكلمة، والأحلام المراودة للقلب، ولا نبالغ لو قلنا إن هذا النص وحده، يكفي للتدليل على عملٍ يشار له بكلّ تقدير، وتبدو الموهبة جلية في نص «معتوه» كما يبدو مبدع هذه النصوص بالفعل، وكأنه راكضاً نحو ذاته المتسلّحة بالكفاءة والمعرفة، حاملاً كلّ الجهات على ظهره، ويبدو نصّه ناهضاً وهو يتسلق تلك الجدائل السود، متسائلاً عن جدوى العطر الذي لا يشي بمجيء تلك المرأة، وليس من أحدٍ يخفّف من هولِ المصاب، ويربت على كتف الأمنيات.
هذه النصوص لها مع الدمع والكحل حكاية، ومع قمم الجبال والبراكين التي ولد الكاتب من أصلابها حكاية أخرى، لتمتزج بحكاياتِ الماء والتراب والبشر والحبيبة المشتهاة، وتصير ارتجاج الماء في قارورة الخزف الرهيفة، وفيها كما يقول المؤلف: «حسرات السنين.. لقارب الظمآن يتنفس ماء البحر، والأشجار تُصلي بين يدي اللهب».. وحيث يحلو النوم على الحقائب الورقية التي يثقل وزنها بأسماءِ الذين يتأبّطون آلامهم، والجسر الذي قد لا يتّسع، والناس الهلاميون المارون بين أسفار الليل، ومن ثم الأجمل والأحلى، حين يرى الكاتب نفسه، كما يشير في مقطعٍ أخير من نصوصه الباذخة في حضورها: «أرتكب أخطائي الجميلة علناً، وأتلصّص على صورة خدّي الملتصق بالنافذة.. بخار أنفاسي على الزجاج».. ولنا في نصّ «هجين» خير مثالٍ للتدليل على الرسم واللوحة التشكيلية، والنصّ الحامل للكثير من الدلالات، حيث يقول فيه: «لك أن تُزيل كلَّ الغبار العالق بجبهتك، لكنَّك بالمقابل ستكمل ما بدأت من نسيان. أفقٌ مُعتم، كقصير لا يسمع همس الملائكة في السماء، هكذا كنت أظن، هلوسة ماضٍ بعيد. همهمة في مقهى. عويل قطار قادم، ورواية لباولو كويلو، تركت على رصيف، بجانب قطعة خبز يابسة. من قال لك أن تحصي تلك الأشجار، وأن تعدّ ما سقط من أوراقها اليابسة في ظهيرة يوم خريفي؟»..
في الحقيقة، نحن أمام نصوصٍ لاهثة بما تعني تلك الكلمة، وقد حاولنا أن نأخذ الكثير من كلامِ الكاتب في سياق كلامنا، لكنها بقيت متراكضة في الفضاء الوسيع والمترامي البعيد، وجمال الفكرة بداية، هو ما جعل لوحات أو نصوص الكاتب «صفاء الصحاف» تحمل سمات الكتابة الحقيقية، والتي نؤكد أن من أبدعها، يمتلك بصيرة نافذة وفكراً وقّاداً، وانفتاح على ثقافةٍ أدّت إلى تقديمه لهذا البهاء الذي بين أيدينا، والذي يحمل عنواناً «وللظلّ نزفٌ آخر» لنجزم بعد ذلك بأنه نزف متواصل، سيستمر في التبشير بولاداتٍ مكتملة، ذلك لأن البدايات السليمة ستؤدي بالضرورة إلى نتائج ناجحة، فيها التوقّد والاشتعال المطلوب في هذا الفن.
* روائي ومسرحي وقاص
التاريخ: الثلاثاء23-11-2021
رقم العدد :1073