الملحق الثقافي:فاتن أحمد دعبول:
ربما التجربة في التأليف المشترك ليست حديثة العهد، فقد مارسها العديد من الأدباء وحتى العلماء في غير عصر وحقبة زمنية، وفي عالمنا العربي والغربي على حد سواء، وجميعنا لابد يذكر العمل المشترك الذي جمع العملاقين طه حسين وتوفيق الحكيم في الرواية المسرحية” القصر المسحور، وتجربة الأديبين الروائيين عبد الرحمن منيف وجبرا إبراهيم جبرا في رواية”عالم بلا خرائط”.
واختلفت آراء النقاد حول ماهية هذه الأعمال المشتركة، فبعضهم وجد فيها تجربة رائعة وفريدة من نوعها، بينما وصمها البعض بأنها أعمال بلا هوية، وفي تحقيقنا اليوم سنقف عند آراء من كان له الباع في هذا النوع من الكتابات، نستطلع رؤى وأفكاراً نصل من خلالها إلى توصيف هذه الأعمال ووضعها في المكان الذي يليق بها.
الدكتور حسين جمعة: يغني الكتاب
يقول د.حسين جمعة الباحث والمفكر: إن تجربتي بالكتابة المشتركة لعدد من الكتب تثبت أموراً إيجابية في الوقت الذي يمكن أن تتسم ببعض السمات السلبية، فمن النواحي الإيجابية إني أطلع على رؤية أخرى لباحث متخصص، وفي جانب ما، يتطرق إليه التأليف، لذلك أنا أستفيد من تلك الرؤية التي قد تكون مختلفة عن رؤيتي، لأن لكل إنسان بيئته وثقافته وخبراته، وربما أطلع على شيء لم أطلع عليه أو صلت يده إلى كتاب ما، أو مخطوط ما، أو فكرة ما، لم تصل يدي إلى ذلك.
ويتابع: من هنا نقول من اطلع حجة على من لم يطلع، ونقول أيضاً الإنسان قليل بنفسه وكثير بإخوانه، ونقول أيضاً إن تعدد الرؤى يغني البحث أو الكتاب بالأشكال المتنوعة من فكر صاحبه ومن الفكر الإنساني.
كما يمكن للشريك في التأليف أن ينبهني على بعض المواضع التي سهوت عنها في الكتاب أو المؤلف، لهذا أستطيع القول إن تجربة التأليف المشترك كان ذلك في الاختصاص الدقيق كما حدث بيني وبين د. محمود المقداد في تأليف عن الأدب الإسلامي والأموي، لذلك صدر الكتاب بشكل متكامل تقريبا للشعر والنثر، وتشاورنا في كل قضية من القضايا، فضلاً عن إرشادات أستاذنا المرحوم د.عبد الحفيظ السطلي الذي ينبهنا على بعض المواضع التي سقطت منا.
ويمكن أيضاً للتأليف المشترك أن يكون في موضوعات أخرى ثقافية وسياسية وفكرية، كما وجدناه في بعض الكتب التي تناولت شخصيات محددة” الإمام الحسين، قراءة معاصرة” الذي صدر عن اتحاد الكتاب العرب، هذا الكتاب جمع عدداً من الدراسات التي توافقت على نحو كبير بإظهار شخصية الإمام الحسين وبيان تأثيرها الاجتماعي والإنساني في الحياة والفكر حتى اليوم، ما جعل الكتاب يتكامل على نحو ما، ومن يقرأ الكتاب يجد زوايا الرؤية المتنوعة فيه وهي زوايا تختلف عن زاوية مشرفه د.حسين جمعة الذي تناول بحثه رؤية متميزة عن بقية الرؤى التي تناولها الكتاب، هذا جانب.
ومن جديد خضنا تجربة أخرى في التأليف المشترك لكتاب بعنوان”الدولة المدنية ومجابهة الظلم، رؤية معاصرة” الصادر عن اتحاد الكتاب العرب، تناول الباحثون الذي بلغ عددهم 23 باحثاً رؤى كثيرة أغنت الكتاب.
أما ما يتعلق بالجانب السلبي، فهو الجانب التقني، لأن تجميع الأبحاث في كتاب واحد ليس من السهل بمكان، ولأن الرؤى قد تكون متصادمة أحياناً، وربما يتمسك بعض الباحثين بآرائهم على الرغم من أنها تتصف بالتأويل، ويمكن أن نقبل ذلك بما يسمى احترام الرأي الآخر وتقديره وقبول آرائه، إذ لا يجوز لنا إذا خالفنا أحد الباحثين بالرأي أن نلغيه أو نشطبه من التأليف المشترك.
ويخلص د.جمعة إلى القول: عندي الفكر الآخر يغني الكتاب ولو تباين الرأي فيه، وإذا كان أحدنا مخطئا في رأي ما وأصر عليه، يمكن أن يترك للزمن، فالزمن كفيل بكشف المخطىء، إما أن يكون هو وإما نكون نحن.
الدكتور محمد الحوراني: النجاح والتميز نسبي
ويبين د. محمد الحوراني رئيس اتحاد الكتاب العرب أنه لا يمكننا أن نضع التأليف المشترك كله، لأن هذا العمل الأدبي أو الإبداعي أو البحثي أو المترجم، يختلف بين جنس أدبي وآخر، وعندما ينجح في جنس أدبي فهذا لا يعني نجاحه في الأجناس الأخرى، وعلى سبيل المثال أرى أن العمل المشترك يمكن أن ينجح في المادة البحثية أو المترجمة أكثر منه في المادة الإبداعية، لا بل إن نجاحه في العمل البحثي أو المترجم محكوم أيضاً بالطريقة التي تم بها إنجاز هذا العمل، إذ يمكن تقسيم الدراسة أو البحث إلى أقسام وفصول أو محاور، ويمكن لكل باحث أن يعالج محوراً أو بحثاً منها لنكون في النهاية أمام كتاب متكامل من خلال وجهات نظر مختلفة، ذلك أن وجهات النظر نادراً ما تتطابق أو تتماهى في العمل البحثي أو الدراسات الفكرية والإنسانية.
ويضيف: وكذا الحال بالنسبة للعمل المترجم فلكل مترجم طريقته في الترجمة، ومن الممكن نجاحها عندما يقسم العمل المترجم إلى أقسام ويترجمه أكثر من مترجم، أي أن يترجم كل مترجم عنواناً أو بحثاً من الكتاب الأساسي، لا أن يترجم أكثر من مترجم فصلاً واحداً.
أما فيما يتعلق بالأعمال الإبداعية فلا يرى نجاحا لقصة مشتركة أو قصيدة مشتركة، لأن إبداع الشاعر والقاص والروائي يختلف بين مبدع وآخر، وبالتالي فإن العمل المشترك يظهر هذا النص قوياً في مكان وهشاً في مكان آخر، وهو ما يفسد النص الإبداعي، أما أن تكون كل قصيدة لشاعر أو يجمع أكثر من قاص قصصهم في سفر واحد، فهذا ممكن جداً، ومن شأنه أن يساعد المبدع والكاتب على نشر إبداعاته ورقيا، ولاسيما في هذا الزمن الذي غدت الضائقة الاقتصادية خانقة على المبدع وعلى سواه.
أما فيما يتعلق بتجربته، المشتركة، يقول رئيس اتحاد الكتاب العرب كانت تجربة معقولة إذ اعتمدت الشق الأول من الكتابة المشتركة، أي أن يتم اختيار موضوع وتكليف عدد من الباحثين في الكتابة به، بحيث يكتب كل كاتب عن محور من المحاور، وبالتالي يكون هناك وجهات نظر مختلفة في الكتاب الواحد.
ويختم بالقول: إن الرواية جنس أدبي له خصوصيته المطلقة، ونادراً ما يمكن نجاح عمل روائي إلا إذا كان ثمة تقاطع كبير في الثقافة والقناعات والرؤى وأسلوب الكتابة، وهو نادر جداً، كما أن الاشتراك في عمل روائي جيد لا يمكن أن يتم إلا بعد مخاض عسير، وربما بعد كثير من المشاحنات والمماحكات الأدبية.
وأعتقد أن العمل الإبداعي المشترك له من الإيجابيات مثل ماله من السلبيات، فمن الممكن أن يقرب وجهات النظر بين الكتاب والمبدعين، كما يمكن أن يسهم بتعميق الخلافات فيما بينهم، وهذا يعود لقناعة كل كاتب وطريقته البحثية أو الكتابية.
الكاتب محمد الحفري: إنموذج يحتذى به
ويبين الكاتب محمد الحفري وحسب وجهة نظره الفرق بين العمل التشاركي والعمل المشترك ويقول: العمل المشترك أن يكتب كل كاتب مادته في هذا الكتاب أو ذاك مع مجموعة كتّاب سواء أكان ذلك قصة أم شعر أم غيرهما في هذا المجال ولدي في هذا المجال مشاركة في مجموعة قصصية تحمل عنوان” حكايات أثيرة” وقد صدرت مؤخراً عن اتحاد الكتاب العرب، ولي أيضاً تجربة مشتركة في مجموعة قصصية أخرى تحمل عنوان” سوراقيا” وهي صادرة عن دار السامر في البصرة كما لي أيضا تجربة مشتركة على صعيد الكتابة الدرامية.
أما في الكتابة التشاركية فلدي تجربة واحدة مع الأصدقاء في رواية” القطار الأزرق” الصادرة عن دار توتول هذا العام حيث كانت التشاركية من قبل سبعة كتّاب، ومعن التشاركية أن يكتب كتّاب العمل في كل صفحة أو حتى سطر من سطور الرواية، وقد شكلنا بهذا العمل سبقاً قد يكون ليس عربيا وحسب، بل عالمي أيضاً لأن هذه التجربة قليلة أو تكاد تكون نادرة، وأن يجتمع سبعة كتّاب على عمل واحد فهذا ليس بالأمر الهين.
قيل لنا إن هناك تجربة لكتاب من الأردن قد سبقتنا وهي مؤلفة من تسعة كتّاب، وحين بحثنا عن تجربتهم وجدنا أنها تنتمي إلى الرواية المشتركة وليست تشاركية، وكل واحد من هؤلاء الكتاب كتب فصلاً مستقلاً عن الآخر.
ويضيف الحفري: ما يميز رواية القطار الأزرق أن خطوطها متشابكة ومن الصعب أن يمر مقطع منها من دون أن يتدخل هذا الكاتب أو ذاك، كما أن البطولة للكتاب الذي حمل كل واحد منهم اسمه الحقيقي وهذه نقطة مهمة تضاف إلى محاسنه وجمالياته.
وبالعودة إلى تجربته يقول الحفري: إن رواية” القطار الأزرق” كانت من أصعب التجارب لاجتماع سبعة كتّاب ينتمون إلى مدارس مختلفة ليكتبوا عملاً يجمعهم، ثم السويات الفنية تشكل صعوبة أو ربما استحالة أمام إتمام العمل، وربما هذا ما دفعني للانسحاب ثلاث مرات من العمل، ولكنني عدت وتغلبت على عصبيتي وغضبي لأن هناك قلوباً محبة دعتني للعودة، لدي تفصيلات كثيرة عن هذا العمل وهي تحتاج إلى ملف خاص حين أقرر أن أبوح بها في يوم ما.
ولكن من أهم إيجابيات هذا العمل هي المحبة التي جمعتنا ووحدت قلوبنا ورسالتنا من خلاله، أن بإمكان الجماعة إذا توفرت المحبة أن تنتج أعمالاً جميلة مثل رواية” القطار الأزرق” والرسالة الأهم هي عدم الخوف من التجربة وعدم القنوط أو اليأس، لأن الأمل ضرورة نعيش بانتظارها كما كنا في المحطة المفترضة ننتظر قطار الأمل، والحقيقة لولا محبتنا ما كان هذا العمل ليرى النور أبداً.
أما عن الصعوبات والتحديات والسلبيات وما جرى في الكواليس والاتفاق الذي تم خرقه فذاك حديث يمكن أن يستوفى ويكتمل لاحقاً وفي ظروف غير هذه.
ويخلص للقول: نحن في مجال التشاركية لدينا منجز مهم نفاخر ونعتز به، وهو أنموذج جميل يمكن أن يحتذى به ويقلد، وهذه التجربة يمكن أن تعمم لتصدر من بعدها الكثير من الأعمال الناضجة من حيث سويتها الفنية وأحداثها وشخصياتها الجاذبة لكل قارىء، كي يكون فاعلاً ومتفاعلًا وهذه شكلت ثلاثية النص المتفاعل التي يمكن الإشارة إليها والمكونة من مرسل ونص ومن تلقى وقرأ، وقد لمسنا عند الأغلبية ذاك القبول الجميل بعيداً عن المجاملة التي تضر بالفن ولا تفيده أبداً.
الناقد عمر جمعة: فكرة سامية
ويرى الكاتب والناقد عمر جمعة أن فكرة الكتابة المشتركة فكرة سامية إذا كانت مبنية على قيمة إكمال ما بدأه بعض الرواد، وفي الوقت نفسه توفر الرغبة والطموح والقناعة بإمكانية تقديم وابتكار نص أدبي مختلف يحقق للأطراف المشاركة فيه المتعة في اكتشاف هذا العالم المترع بالمغامرة.
ويضيف: في تجربتنا المشتركة مع الأديبة عبير القتال في رواية” سنلتقي ذات مساء في يافا” الصادرة عام 2016 عن وزارة الثقافة في سورية، كان الهم والاهتمام تحدي الحرب وقساوة تداعياتها وإعلان أن الجغرافيا التي رسمها الأعداء بين حدود سورية وفلسطين منذ سايكس بيكو حتى اليوم ستسقط أمام الحب والإيمان بوحدة الوطن الكبير في وعينا باسم بلاد الشام أو سورية الكبرى، والجهر بأن القدس ودمشق هما قلب واحد، وأن الساحل الممتد من خليج اسكندرون حتى رفح هو ذاكرة كنعانية لا تمحوها النوائب وتقلبات الزمان وتحولاته.
ولعل ما ميز هذه التجربة وأعطاها النبض الإيجابي أن عبير القتال التي طرحت فكرة العمل المشترك أولا سبق أن أنجزت كتاباً باذخاً عن الذاكرة الفلسطينية عبر لقاء مجموعة من الشعراء والكتاب الفلسطينيين، فيما كنت أنا مثخنا بجرح بلدتي السليبة في صفد ووطني المستمر في نزفه من القدس حتى يافا وغزة والناصرة وبيت لحم وسواها من المدن المنكوبة بالاحتلال البغيض، لذلك بدت الروح مشتركة حتى في أدق التفاصيل، اختلفنا تارة واتفقنا في أخرى، وهذا طبيعي جدا في ظل تباين وجهات النظر حيال بعض القضايا الإنسانية أو حتى الفنية، قبل أن يصدر العمل ويحظى في زعمنا بهذا النجاح الكبير.
وعلى هذا يمكن الاعتراف بأنها كانت تجربة ممتعة أرضت رغبة دفينة في أرواحنا بأن نقدم عملاً مشتركاً يعبر عن مدى إيماننا وقناعتنا بأن الكتابة والفعل الإبداعي يمكن أن يكفكف شيئاً من الجرح العربي النازف حتى اليوم، ويرسي قيمة مختلفة في محبة الوطن والوفاء لذاكرته وذكرياته.
التاريخ: الثلاثاء7-12-2021
رقم العدد :1075