بقلم – إيهاب زكي -كاتب فلسطيني:
منذ انتهاء حرب تشرين أكتوبر عام 1973، وما تلاها من خروج مصر من الصراع، أدركت سورية أنّ ميزان القوى اختل لصالح العدو الصهيوني، وهذا الاختلال تجلت نتائجه في خروج منظمة التحرير من لبنان، ثم جاء انهيار الاتحاد السوفييتي وغزو العراق قبل احتلاله، وما نتج عن ذلك من مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، وهذا الإدراك الأول منذ عام 74، كان يتطلب اجتراح استراتيجية للمواجهة، لا تؤدي لاندلاع حربٍ سورية-“إسرائيلية” غير متكافئة، وحينها لن تكون الخسارة سوريةً فقط، بل خسارة أمةٍ لمصيرها وأرضها وثرواتها وسيادتها واستقلالها.
فابتكرت سورية استراتيجية ذكية وبناءة على عدة مستويات، منها الاتجاه لتطوير منظومتها الصاروخية بدلاً عن الاستثمار في سلاح الطيران، حيث التكلفة الباهظة وعدم القدرة على مجاراة سلاح الجو”الإسرائيلي”، نظراً للدعم الأميركي غير المنقطع.
ولكن الجزء الأهم في الاستراتيجية السورية، كان دعم حركات المقاومة في فلسطين ولبنان، وفي العراق لاحقاً، حيث أنّ هذه الاستراتيجية أبقت الصراع حياً من جانب، ودون الحاجة لخوض حربٍ كلاسيكية، تكون النتيجة فيها لصالح”إسرائيل” دون شك من جانبٍ آخر، وقد يتبادر للذهن سؤالٌ، لماذا تدعم المقاومة في لبنان وفلسطين، دون وجود مقاومة مسلحة في الجولان؟ والجواب هنا قد يبدو بسيطاً على قدر تعقيده، فسورية دولةٌ مركزية، وبالتالي ليس متيسراً فتح جبهة الجولان لمقاومة باعتبارها قراراً شعبياً، بعيداً عن مركزية الدولة، والتي ستتحمل المسؤولية حينها دولياً على المستويين السياسي والقانوني، وبالتالي احتمال اندلاع حربٍ كلاسيكية لا تريدها سورية، أو أن يتم التعامل مع سورية باعتبارها دولة فاشلة، غير قادرة على التحكم بأمنها وحدودها.
لذلك كان الخيار الأمثل هو دعم المقاومات في كلٍ من لبنان وفلسطين، وهو خيار أثبت نجاعته، فقد أصبحت”إسرائيل” بعد سبعة عقود وما يزيد على نشأتها، تتحسس رأسها بالخطر الوجودي، الذي أصبح هاجسها، من خلال صعود محور المقاومة وفي القلب منه سورية.
وقد لاحظنا كمتابعين أنّ هناك تدرجاً سورياً في التعامل مع العدوان”الإسرائيلي”، حيث ما قبل اندلاع الحرب على سورية عام 2011، كانت الدولة السورية تكتفي بالاحتفاظ بحق الردّ، وقد عملت ما تسمى بـ”الثورة” حسب خطة”إسرائيلية”، على تفكيك قدرات الدفاع الجوي السوري، ولكن بشكلٍ مفاجئ أعلن الرئيس الأسد عن خطوةٍ للأمام في غمرة الحرب في سورية، حيث أعلن أنّ سلاح الدفاعات الجوية مخولٌ بالتصدي للغارات”الإسرائيلية” في أيّ وقت دون العودة للقيادة، وكانت هذه خطوة صادمة في حينها لدولةٍ تتخذ قراراً بهذا الحجم، وهي في الداخل يحارب جيشها على أكثر من 600 جبهة في بعض الأحيان، وهذا ما تلتزم به الدفاعات الجوية السورية حتى اللحظة وببسالةٍ هائلة، رغم ضعف الإمكانات ورغم كل المعوقات.
وحتى ما قبل العدوان على مرفأ اللاذقية، كانت”إسرائيل” تعرف الخطوط الحمراء وتعمل تحت سقفها، فقد أصبحت هي المتخوفة من اندلاع الحرب في انعكاس للقاعدة التي حكمت الاستراتيجية السورية على مدى عقود، وكانت القيادة السورية تعمل في إطار الاستراتيجية الدفاعية، التي تتناسب مع حيثيات الحرب على سورية، ولكن بعد الاستهداف المتكرر لمرفأ اللاذقية، والذي يدخل في إطار الحرب الاقتصادية وليس النفسية والاستعراضية فقط، قد تفكر الدولة السورية باستراتيجيةٍ مختلفة.
سورية ليست دولة منعزلة، والحرب على أرضها كانت بمثابة حربٍ عالمية، لذلك فاستراتيجيتها تختلف عن استراتيجيات المقاومة في لبنان أو غزة، أيّ أنّ الردود السورية قد لا تقتصر على فعلٍ ورد فعلٍ ثنائي، حيث قد يتدحرج الأمر لحربٍ عالمية ثالثة، وقد لاحظنا مثلاً حين أعلن السيد حسن نصر الله عن استراتيجية الحرب الإقليمية، أعلنت حركة أنصار الله في اليمن أنّها جزء منها، كما أعلنت فصائل الحشد الشعبي ذلك، ورغم أنّ سورية وإيران كدولتين ذات سيادة، لم يعلنا أنهما جزء من هذه الحرب، رغم أنّهما الجزء الأهم في محور المقاومة، كما أنّ السيد نصر الله حين قال حرباً إقليمية، قطعاً كان يعني سورية وإيران، لأنّه لا حرب إقليمية دونهما أو إحداهما على الأقل.
لذلك فإنّ الرد السوري إن حدث في عمق فلسطين المحتلة، فاحتمالية ألّا يبقى موضعياً عالية جداً، والقوى العظمى تتهرب من حدوث احتكاكٍ يشعل الكوكب هروب الفريسة من الذئب، لذا فإنّ الردّ السوري بحاجة لميزان ذهب محلي إقليمي ودولي، وليس مجرد قواعد اشتباك ثنائية، ولكن المقطوع به، أنّ هناك حساباً مفتوحاً، سيُغلق يوماً ما، وقد يكون أقرب مما نظن.