الملحق الثقافي:غسان كامل ونوس:
ليست المجاملة ظاهرة جديدة أو غريبة على مفردات الحياة لدينا، ولا طارئة أو عارضة في مختلف علاقاتنا العامّة والخاصّة؛ ولها طقوسها وإشاراتها وعلاماتها وملامحها وعباراتها وسلوكاتها، ولها أمثالها أيضاً. وإذا كان ممكناً تفهّمها- من دون تسويغها بالضرورة- في حالات ومواقع؛ حيث تمهّد المشهد، وتيسّر الحديث اللاحق، وتبشّر بالانسجام، الذي قد يؤدّي إلى توافق، وقد تعجز عن ذلك، لأسباب شتّى؛ لكنّها تبقى، أوّلاً وأخيراً؛ ولا سيّما حين تصبح تملّقاً واستجداءً وتقرّباً، عنواناً للنفاق الاجتماعيّ، الذي نُربّى عليه، ونعتاد على فصوله، التي تكاد تكون يوميّة وشاملة، من خلال إطلاق الألقاب والصفات المبالغ بها على كلّ من نلتقيه، أو نحادثه عبر الهاتف، أو نصادفه، أو نقابله لأمر ما… بصرف النظر إن كان يستحقّ بعض هذا أو كلّه، وكثيراً ما يُلاحظ ذلك فيما يراه الآخرون، ويتابعونه بالمصادفة، أو بالضرورة، أو بلزوم ما يلزم، وربّما رغماً عن أنوفهم؛ ولا سيّما في الاستخدام الخاصّ، أو المشترك، أو المفتوح للعامّة؛ بمختلف وسائله وأدواته؛ الأرضيّة، والفضائيّة، والالكترونيّة؛ ويغدو نوعاً من المجاملة الفجّة حيناً، حين تخرج علائمه وعباراته عن المقبول والمنطقيّ، وتبدو في غير مكانها، وافتعالاً غير مطلوب؛ كما تصبح فائضة مبالغاً فيها، وتغطية لتقصير في الإعداد أو قصور في الإمكانيّة والاستعداد، أو شحّ في المضمون، أو في فهمه!
ولعلّ أكثر ما ينفر ناشزاً أكثر، ما يستخدم من التملّق في الثقافة، التي توحي، في الأصل والغاية، بالموضوعيّة والمسؤوليّة والجدّيّة والتشذيب والتقويم والتصويب، إلى غير ما هنالك من المعاني الإيجابيّة المفترضة والمطلوبة المحسوسة والملموسة؛ كما يُؤمَّل أن تدلّ على الإنجاز المبشّر الناجم عن موهبة، ودأب، وتمثّل مقنع، وانفعال صادق، واحتراق ذاتيّ وجمعيّ؛ فيكون العبث فيها ممجوجاً، والتعامل معها ومع المثقّفين بتملّق ومحاباة، مرضاً وعلّة!
قد يبدو الكلام في هذا مكروراً؛ لكنّه ضروريّ مع استمرار الحالة واستمرائها. وتمكن الإشارة إلى تناول مقرّظ وحميميّ لما يكتبه مسؤولون ثقافيّون، وأصحاب مهمّات في أيّ من أشكال الثقافة ومواقع حضورها، أو ينشرونه، أو يقدّمونه في أيّ مجال ثقافيّ، كان هذا قبلاً، وكائن الآن، وسيكون في ما هو قادم، إلى ما لا يعرف من ظروف وأحوال وبشر وبيئات. ويمكن القبض على أمثلة عديدة، لايزال بعضها قائماً! وأستطيع أن أشهد على ذلك عمليّاً، وعلى نفسي قبل الآخرين؛ فحين كنت مسؤولاً ثقافيّاً، كان يتسابق عدد من الكتّاب إلى الكتابة عن أيّ كتاب يصدر لي؛ مع الإشارة الضروريّة إلى أنّني لم أنشر أيّاً من هذه الكتابات في الدوريّة، التي أشرفت عليها بضع سنين، وحين تَركت تلك المسؤوليّة الثقافيّة، لم يلتفت إلى ما أصدرته من قبلُ ومن بعدُ أحد؛ إلّا فيما ندر، ومن قبل قلّة غير منظورة إلّا قليلاً! بغضّ النظر إن كان ما أبثّه يستحقّ أو لا؛ وفي كلّ حال يحتمل القول النقديّ فيه، والإشارة إلى سلبيّاته وإيجابيّاته. وهذه- بالتأكيد- ليست شكوى ولا مطالبة ولا دعوة، ولا توسّل أو استجداء؛ بل هي دلالة على الحال التي أعرضها، وتسويغ ربّما للكتابة عنها مجدّداً؛ إضافة إلى أنّها رغبة وحاجة وحقّ لكلّ من نشط، وينشط في الثقافة، وسواها…
وثمّة أمثلة، تكاد لا تحصى، على التملّق الثقافيّ:
فحين تبالغ في شكر المسؤول عن الدوريّة الثقافيّة، إذا ما نشر لك مادّة، فأنت تنال من نفسك، أو تتناوله بالإساءة؛ فما الغرض من الدوريّة الثقافيّة، إذا لم يكن نشر المواد ذات الجودة الفنّيّة والمضمونيّة فيها؟! وحين تقوم بهذا الفعل المتداني نظريّاً أو سواه تجاه القائم على ذلك؛ فإمّا أنّك تعترف بعدم صلاحيّة مادّتك للنشر، وقد نشرها، أو إنّ معايير النشر في هذه الدوريّة، لا تعتمد على الجودة؛ بل حسب هوى الناشر، وحين نشر لك ما أرسلت، فهو قد أسبغ عليك فضلاً، وقدّم لك من لدنه شيئاً عظيماً! ويُفترض ألّا تكون الغاية من النشر المكافأة المادّيّة؛ على أهمّيتها- وشحّها- فحسب؛ بل إنّ الدافع إليه هاجس ثقافيّ أسمى؛ يتمثّل على أقلّ تقدير، في أن يتلقّاه مهتمّون كثر، تعرفهم، ولا تعرفهم، وأن يكون لك إسهام في إغناء الحال الثقافيّة، ومشاركة تراها مهمّة في رفد هذا الرصيد المميّز للأفراد والمجتمع، ولجميع الفئات؛ وربّما لا يصل حلمك أو وهمك إلى أن يتناوله أحد بالنقد الجادّ؛ وليت هذا يحصل!
قد يقول قائل: وما الضير في كلمة شكر، حتى لمن يقوم بواجبه؟! ألا نحتاج إليها، وترضينا، وتشجّعنا على المزيد؟!
ليس هناك من ضير، بالتأكيد، والكلمة الحلوة مغرية وجذّابة في كلّ مناسبة؛ ولأنّها كذلك، يُخشى أن تعطى لمن يستحقّ، ولمن لا يستحقّ؛ كما يحدث للأسف؛ فتختلط الأمور، ويضيع المنتجون الحريصون في المحيط، الذي يضمّ كثيرين من غير المنتجين! ويُفترض ألّا يُربط القيام بالعمل المطلوب، بردّ فعل الآخرين عليه، وحتّى لا يعتاد القائم بواجبه على انتظار مثل هذا الشكر؛ من جهة أخرى، لماذا لا يقوم المسؤول عن الدوريّة بشكر صاحب المادّة عليها؟! إن كانت مادّته قيّمة؟! وتعلي من شأن وسيلة النشر وسمعتها؟! ألا تفتقد الدوريّة- أحياناً- مكانتها أو رصيدها حين ينشر فيها ما ليس بالجودة المطلوبة؟!؛ وقد يضطرّ إلى هذا، حين لا توجد البدائل الوافرة المقنعة تماماً؛ لأنّ الالتزام بموعد الصدور في غاية الأهمّيّة! وقد يتمّ التواصل مع من يمكن أن يرفد الدوريّة بما يلزم، ويغني، وهذا ليس عيباً؛ بل هو إجراء حميد ومطلوب، لصالح العمل والمردود، وينمّ عن وعي، ومسؤوليّة، ورغبة بتقديم ما يفيد، ويتميّز، ويلقى لدى صاحب المادّة اهتماماً واحتراماً.
وينسحب الأمر نفسه على المدعوّين إلى المشاركة في تقديم نشاط ثقافيّ؛ فمن مصلحة المسؤول عن المنبر الثقافيّ، أن يُقدَّمَ نشاط حقيقيّ ذو مردود مهمّ، وفي صالح المشارك أن تكون مشاركته حيويّة ومجدية؛ ولا يجوز التعامل مع جميع الناشطين المحتملين بالمستوى عينه، وبالاهتمام ذاته، وبردّ فعل واحد، ومكافآت متساوية؛ وهذا ما يحدث! ولا أن يبنى ذلك على العلاقات الشخصيّة والمصلحيّة المباشرة؛ إنّ من المهمّ والأجدى أن تسلّط الأضواء على من يجيد، وأن تكون مكافأته مجزية، وأن يعمّم النشاط الممّيز على أكثر من منبر؛ ليكثر المستفيدون.. لكنّنا سنقع في طمي التساؤل: من الذي يقيّم، ويقدّر، ويُنصف، ويمايز؟! وما هي جدارته وإمكانيّاته ومعاييره؟! وهل يكفي كونه عاملاً في المؤسّسة الثقافيّة، أو في الوسط الثقافيّ، أو في إدارة النقابة الثقافيّة؛ للبرهان على جدارته الإبداعيّة الثقافيّة؟! سواء أكان مسؤولاً عن منبر ثقافيّ مقروء أو مرئيّ، أو مطلوب، أو في عداد هيئة الإشراف؛ إن لم تكن خلّبيّة! وما هي معايير من اختاره، أو اختارهم، وما هي مسؤوليّته، ومصلحته؟! وهكذا… ويمكن؛ بل يجب أن يُشكر القائمون بالعمل الثقافيّ، والمشاركون فيه، وأن يُقدَّروا، ويُنتقَدوا بلا مبالغة ولا تزلّف؛ لا من أجل دعوة لاحقة، أو انتخاب قادم، أو تقييم مطلوب، أو سوى ذلك!
أمّا ما يُستنزف على صفحات التواصل الاجتماعيّ، من عبارات المديح والتقريظ للناشرين وأصحاب المواقع، والمنتديات، والصفحات، ومانحي الألقاب والشهادات والجوائز، وقد أرهق اللغة، وأتعب المتابعين، وأرّق الثقافة والمثقّفين؛ إضافة إلى كمّ المديح على عبارات ومنشورات وصور ومأكولات ومشروبات… فقد أساء إلى العمل الجادّ في أيّ ميدان، وشوّش على الواقع الحقيقيّ؛ بتعميمه واقعاً يكاد يكون مزيّفاً؛ بمنشوراته وكتّابه ونقّاده وناشريه والمعلّقين عليه بلا مسؤوليّة ولا تحفّظ.. ومثل هذي الحال مؤذية ومشوِّشة لمن لديهم نصوص جادّة حقّاً وقيّمة جوهراً وفنّاً، وتُظلم مرّتين؛ حين يتردّد صاحبها في إلقائها في النهر المعكّر، وحين تُنشر، فتكاد تضيع في الخضمّ المتلاطم!
إنّ الواقع العام ليس عاديّاً، والواقع الثقافيّ ليس طبيعيّاً حيويّاً اصطفائيّاً بنيات طيّبة، وكوادر جديدة، وطاقات مناسبة، وممارسات مقنعة… ولا يكفي أن نقول؛ من حقّ أيّ كان أن يقول ما يراه، ويقرّر ما يرتئيه، ويعمل ما يتاح له؛ فلا بدّ من تقويمات، ودراسات، وإشراف، ووسائل؛ وآليّات؛ لضبط هذا الجريان المستفيض، أكثر من الاعتماد على الرادع الذاتيّ، والخصال الشخصيّة، والمسؤوليّة الثقافيّة، التي يبدو أنّها لم تعدتكفي .
التاريخ: الثلاثاء11-1-2022
رقم العدد :1078